صلاح شعيب
مهما جدت القراءات في فهم مستقبل البلاد سوى أن غياب المعلومات تظل حجر عثرة أمام الراغبين في تقديم صورة كاملة للوضع. هذه واحدة، أما الرؤية الثانية فإن الانحيازات الأيديولوجية، والمناطقية، والقبلية، بدت ظاهرة، وأحيانا مستبطنة في التوقعات المبذولة للمحللين السياسيين حول ما تسير إليه البلاد من مصير مظلم.
والحقيقة أن القراءة الحيادية في مجال العلوم الاجتماعية صعبة. ذلك لأن للمحللين أجندة ما وراء تفسيراتهم للظاهرات السياسية. ولذلك فما نراه الآن من تحليلات، أو آراء في وسائل الإعلام الكلاسيكية والحديثة، أغلبها رغبات فئوية، أو محاولات لتوجيه الرأي العام أكثر من إحاطته بتحديات الواقع السياسي وما قد يؤول إليه، وفقاً لمترتبات أحداث الماضي. وحال السودان البئيس اليوم لا يمكن عزله من ذلك الماضي الذي نُحرت فيه كل الفرص لتجنيب البلد الحروبات المحتومة كأعلى سقف في معاناة السودانيين. وما دون الحروب الخاسرة يمكن الإشارة إلى آثارها الكارثية منذ أول حرب بعد الاستقلال إلى الحرب الدائرة الآن: تحطم النسيج المجتمعي، تراجع تأثير البنيات الحكومية الموروثة، انهيار دور الدولة في تقديم الفرص الصحية، والتعليمية، والخدمية، هجرات ملايين العقول الشريفة المبدعة، انتهاك سيادة البلاد بالارتهان إلى الخارجي، إلخ.
المعلومات الظاهرة في المشهد السياسي تشير إلى أن الحرب الجارية تهدد وحدة نسيج السودان الجغرافي بما خلفته من مصاعب. ولكن المعلومات المستترة حول المخطط لنتيجة الحرب تظل حبيسة أفكار الداعمين للحرب في الداخل، والخارج.
أما إذا زعمنا بأن هناك مؤامرة داخلية، أو خارجية، لحرمان البلاد من السير نحو الديمقراطية لصالح جماعات طبقية، أو فئات إثنية، فإن كل الشواهد تؤكد هذا الزعم، خصوصا إذا ربطنا إسقاط نظام الإنقاذ بنهاية مشروع أسلمة الدولة، وهو بالكاد يخفي وراءه رغبات أيديولوجية بذيول للهيمنة الاقتصادية على موارد البلاد من أجل التمكين الاجتماعي لفئة من المجتمع دون الأخريات.
إن أي تحليل يغفل هذا العامل الأقوى في التهديد بتمزيق السودان يبقى محاولة مبتسرة للقراءة السياسية التي تنوي تخليص السودان من أزمته. فالمخططات الأيديولوجية، والمناطقية، التي تمنع التوصل إلى تسوية سلمية للحرب هي الأعلى صوتا الآن, والأكثر قدرة على حشد الدعم المالي لتلويث الرأي العام دون الوقوف على حقيقة الحرب، وتفاصيلها، ومجرياتها، والمقصود باستمرارها.
لاحظنا أن المواقف السياسية الداعمة للحرب، والمترافقة مع السعي الإعلامي المحموم للإسلام السياسي، وحلفائه ومع الدور الناشط للأمن، والاستخبارات العسكرية التي يسيطر عليها الإسلاميون مثلت التحدي الكبير أمام الراغبين المحليين، والإقليميين، والدوليين، في إنهاء الحرب، وإعادة بناء البلاد بناءً على إجراءات الانتقال نحو النظام الديمقراطي.
المعادلة السياسية الموجودة في مشهد السودان السياسي الآن كما يلي: دعوات لحرب مفتوحة على كل الاحتمالات أمام مجهودات مدنية، وعسكرية مدنية، للتوصل إلى حلول سلمية. غير أن مستقبل تغيير هذه المعادلة رهين بقدرة طرفي الحرب في إنهائها بانتصار طرف على الآخر، أو القبول بتسوية بينهما، سواءً بضغط إقليمي، أو دولي، وذلك في ظل ضعف الضغوطات المحلية المعبأة أصلا بواسطة التنظيمات المدنية التي تعارض استمرار الحرب. ولكن هذه الفرصة للانتصار، أو تلك التسوية، متصلتان بإجراءات قد تأخذ زمناً مديداً.
ومع التخوف من احتمالات تبعثر وحدة السودان، أو انقسام طرف جغرافي منه، ما تزال هناك فرص أمام البرهان وحده بإبعاد هذا السيناريو التقسيمي من التحقق على الأرض. واعتقد أن أولى الخطوات التي يمكن أن يجنب بها تشظي البلاد إبعاد الإسلاميين من الجيش، والخطو بشجاعة نحو تخليص وحدة البلاد من شبح الانهيار.
صحيح أن هناك تعقيدات، وتحديات لوجستية، أمام البرهان لتغيير المعادلة على أرض المشهدين السياسي والحربي، ولكنه هو البرهان الذي يملك من رمزية قيادة الجيش بما يؤهله لوجود داعمين لمغامرة التغيير في موقف بورتسودان من الحرب.
أشرنا من قبل إلى عدم الثقة المتبادلة بين فريق البرهان وبين فريق داعميه الإسلاميين، قائلين إن كل طرف في لحظة ما قد يتحين الفرصة للانقضاض على الآخر لو تقاطعت الطرق بينهما. وما يجري الآن من ارهاصات حول وجود خلافات في القوى المكونة لسلطة بورتسودان ربما ينذر بتحول جديد إذا ما أسرع البرهان باتخاذ الحيطة قبل أن تلفظه الحركة الإسلامية بقائد جديد للجيش يسير على هواها السياسي، والعسكري، معاً.
المصدر: صحيفة الراكوبة