كتب السيد السفير الخضر هارون مقالاً عنوانه (الإقصاء هو داء الديمقراطية العضال في السودان)..وفحوى المقال وزُبدته (بكامل الزيت) أنه يرفض إقصاء الكيزان؛ بل يحاول وضع نظام الإنقاذ المُجرم سواء بسواء مع الأنظمة العسكرية السابقة (عبود ونميري)..ويقول “إن شموليات ما بعد الاستقلال (وطبعا يضع من بينها الإنقاذ) اتسمت بأريحية ميّزتها عن الشموليات في بلاد أخري..!

(فين هذه الأريحية يا رجل) مع بيوت الأشباح ودق المسامير في الرءوس..!

ومع إقرارنا بأن نظامي عبود ونميري كانا حكماً شمولياً له آثار مدمّرة على الوطن ومواطنيه، إلا أننا نتساءل: هل كانت شمولية الإنقاذ حقاً (أريحية)..؟!

إذا كان ذلك كذلك؛ فإن الإنقاذ كانت (أريحية) عندما ارتكب مجازر العيلفون وكجبار والخرطوم والمناصير وبورتسودان..! وأن نظامها كان (أريحياً) في إعداماته الجزافية وكان أريحياً عندما دق مسماراً في رأس طبيب وأولج عوداً في دبر معلّم..! وعندما دمّر المرافق ونهب الموارد وقام بتشليع منظومة العدالة وعندما أحرق دارفور وفصل الجنوب..!

الانقلابات بطبيعتها أنظمة شمولية هي الإقصاء بعينه..! إقصاء كل الشعب عن أي مشاركة في مصائر البلاد.. وقد رأينا ما جرى من نظام الإنقاذ.. وهو (أردأ أنواع الشموليات) التي مرّت على السودان منذ الاحتلال التركي والاستعمار البريطاني..!!

الكيزان هم أصحاب الإقصاء..! فهم الذين أقصوا مُجمل خصومهم السياسيين والمدنيين ليس من السياسة فقط؛ بل من الحياة..! لقد أقصوا كل من لا ينتمي إليهم من حق العمل والسكن والتملّك والتقاضي..بل حق تنفّس الهواء..!

لقد جعلوا الوطن بكل ما فيه حكراً خالصاً لهم..وشطبوا (بجرة قلم) كل الأحزاب السياسية والنقابات والمنظمات المهنية والمدنية والتنظيمات الأهلية وألقوا بأكثر من 300 ألف موظف في هوة الضياع بحجة (الصالح العام) الذي يقصدون به (امتياز الكيزان الخاص)..!

لقد اعتاد الكيزان الحديث عن الإقصاء بصورة ملتوية..والإقصاء المقصود بعد ديسمبر العظمى هو (إقصاء المؤتمر الوطني من العمل السياسي خلال الفترة الانتقالية)..وكان ذلك مطلباً شعبياً أجمعت عليه القوى السياسية (بل حتى العسكريين وافقوا عليه)…!

الهجوم على كل القوى المدنية والسياسية بلا استثناء هي مقولة أنتجتها (فبريكة الكيزان)؛ نقول ذلك حتى نقطع الطريق (ما أمكن) على كل من يريد الالتفاف على هذه الحقيقة الساطعة..!

الكاتب في مقاله يسمي انقلاب الإنقاذ (ثورة الإنقاذ الوطني) وكذلك يفعل “كمال ترباس”..! ولا ينبغي لعاقل أن يجاري الكيزان في هذه التسمية المضللة لانقلاب مُجرم كان عنوانه (عهد الخراب الوطني)..!

انه نظام فاسد (من شعر رأسه إلى أخمص قدميه) امتد لثلاثين عاماً ولا يمكن بأي حال المقارنة بينه وبين أنظمة مدنية لم يتجاوز أقصي عهد لها ثلاثة أعوام..!

ويقول الرجل وكأنه يبرر لانقلاب الإنقاذ إن هذا الانقلاب سبقه حديث عن سبع انقلابات ؟..! قل سبقته عشرين محاولة انقلاب ..هل هذا مما يشفع له..!

ويركّز كاتب المقال بصفة خاصة على مذكرة الجيش عام 1989 وإخراج ممثلي (جبهة الترابي الإسلامجية) من الحكومة الائتلافية، ويلمّح إلى سوء الأحوال وقتها..وكأنه يعتذر لانقلاب يونيو المشؤوم..!

ثم يتحدث عن وقائع تفوح منها رائحة الازدراء لمواطني جنوب السودان..حيث يذكر في واحدة من مروياته ما يصفه بـ (تنمّر) عناصر من أتباع الراحل جون قرنق في (صفوف الرغيف) بالخرطوم..ويحكي قصة خيالية حول اثنين منهم قال إنهما تشاجرا حول (بناية فاخرة) ليحتلاها بعد اجتياح قرنق للخرطوم…!!

ويقول الكاتب انه (شخصياً لم يستبعد ذلك الاجتياح) ثم يذكر (بدون مناسبة) مذابح زنجبار..وما في ذكرها من دلالات عنصرية…!!

لقد جاء جون قرنق للخرطوم بعد أن (لحست) الإنقاذ شروطها الشرعية في تولية غير المسلمين..! وأصبح قرنق نائباً لرئيس الجمهورية.. ولكن لم نشاهد اجتياحاً ولا استيلاءً على البنايات الفاخرة ولا مشاجرات حولها…كما لم نشاهد كذلك (مذابح زنجبار)..!

الكاتب يستكثر تنمّر أو تذمّر بضع أفراد جنوبيين في صف رغيف..ولا يذكر أن الإنقاذ قتلت مليوني مواطن في جنوب السودان ودمّرت أسباب حياة ملايين آخرين..!

وإذا كان كاتب المقال يريد أن يجعل من الذكرى المشؤومة لانقلاب الإنقاذ مناسبة لنقاش مُثمر وسانحة لحوار يبحث في معضلة عدم استقرار واستمرار النظم الديمقراطية فلا بأس..! ولكن جميع الوقائع التي يوردها كاتب المقال كانت (انتقائية) ودائماً ما يرددها الكيزان لتسفيه الديمقراطية والهجوم على الأحزاب (وشرعنة الانقلاب على الحُكم المدني)..!

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.