د. الوليد آدم مادبو

*“كل أدبٍ يُحاكم كجريمة هو إدانة صريحة لعجز الدولة عن مواجهة الحقيقة.”*
إميل زولا

في العاشر من يوليو 2025، بلِّغتُ رسميًا باستدعاء من *إدارة الجرائم الاقتصادية والإلكترونية بدولة قطر،* على خلفية دعوى جنائية رفعتها ضدي السفيرة أميرة قرناص، بتهمة “التشهير” بسبب مقالةٍ أدبيةسياسية كتبتها بعنوان: “قرناص: عار الدولة ولذّة الطاعة”. وأتبعتها بمقالتين (فرناس: تأنيث السلطة وتأبيد الطاعة، رجل الدولة: كسر المرايا ومحو الخطايا)، فاكتملت بذلك *”ثلاثية قرناص”* التي تسعى لتمليك الشعب السوداني ملابسات “القصيدة التي أرعبت النظام”.

لم أندهش من الدعوى بقدر ما هالني هذا الإصرار على محاكمة النصّ، لا بالقراءة والنقد، بل بالبلاغ والنيابة، وكأننا لم نخرج من عباءة الدولة التي ظلت تجرّم القصيدة، وتجلد الشاعرة، وتكمّم الكاتب باسم الأخلاق، ثم تبيع الوطن بأكمله في مزاد السلطة. واليوم، تعود الدولة أو ما تبقّى من طيفها المرتجف لتخشى الكلمة، فتستدعي كاتبًا لا لأنه شهّر أو قذف، بل لأنه جرّد الخطاب السياسي من قماشه الرثّ، وعرّى منظومةً اعتادت أن تغطّي عورتها بالبروتوكول.

لقد رفعت السفيرة دعوى ضدي، لا لأنني مسستُ شرفًا فرديًا، بل لأنني وصفتُ مشهدًا عامًا ظلّ يتكرّر كطقسٍ من طقوس الخنوع المؤسَّس. تجاهلت المقال بأكمله، واقتطفت منه ما يصلح لتحريك دعوى، لا لتحريك ضمير. وكأننا أمام عقلٍ قانونيٍّ بلا ذاكرة، أو ذاكرة بلا خجل.

إن المقال وقد حمل عنوان *“قرناص: عار الدولة ولذّة الطاعة”* لم يكن خطاب كراهية، بل *خطاب افتضاحٍ فكريّ وأخلاقي*، يرصد تحوّل النساء في عهد الإنقاذ من كينونات إلى رموزٍ للامتثال، من الذات الحرة إلى الجسد المفوّض، من الحبّ إلى التوظيف، من الحُسن إلى الحِرفة.

لقد كانت بعض النساء ومنهن من رفعت الدعوى أدوات في معمار سياسيّ شوه المرأة، ثم أعاد صقلها على مقاس الزعيم، لا على مقاس الحياة. لم تكن أنوثتهن هبةً للذات، بل منحةً لهيكل السلطة. وهذا في عرفي ليس فقط خطيئة سياسية، بل خيانة للأمومة، وللحبّ، وللشوق الذي لا يباع في أسواق الامتيازات. إن من خانت أنوثتها، لن تخلص لامرأةٍ أخرى. ومن تاجرت بجسدها السياسي، لن تحمي جسد الأمة من الانتهاك (أنظر اللوحة أعلاه للفنانة التشكيلية إسراء سعيد).

*أين الجريمة في قول الحقيقة؟ ألم يكن الكاتب محقًا عندما شرح مأساة السودان من خلال عرض لنموذج شخصيّ يتقاطع عضويًا مع البنية السياسية الفاسدة*: الطليق الثاني في وقت من الأوقات رئيس وزراء مؤقت، الطليق الثالث في ذات الوقت وزير خارجية، والزوج الحالي لحظة كتابة المقال أمير الحركة الإسلامية الإجرامية ومهندس الحرب الأهلية الحالية. والسفيرة، وإن بدت في ظاهرها شخصًا مستقلاً، فإنها لم تكن كذلك لحظةَ قبولها تمثيل وتحريك جماعةٍ تُجرّمها ذاكرة السودانيين قبل محاكمهم.

*لم تكن قرناص اسمًا، بل سلوكًا: سلوك نظامٍ جعل من الأنوثة سلعةً لتجميل وجهٍ سلطويّ مليءٍ بالندوب.* إن محاولتها لتجريم المقال، ليست إلا امتدادًا لمنطق الإنقاذ: ذاك الذي شرّع الجلد باسم الطهر، واغتصب باسم الجهاد، وقنّن الذلّ باسم الشريعة. فيا سعادة السفيرة، أيّ تشهيرٍ هذا الذي يُقال عنك، وأنتِ اخترتِ التماهي مع بنيةٍ اغتصبت الرجال وأنزلت على السودانيات سياط النظام العام، وألبستك بالمقابل ثوب التمثيل والجلال؟

ختامًا، هذه ليست قضية تشهير، بل محاولة خرقاء لإعدام التأويل. رغبة قديمة في *تأنيث الدولة دون تمكين النساء، وتذكير السلطة دون محاسبة الرجال.* وسيبقى المقال. وسيظل الجسد سؤالًا سياسيًا. وستظل الأنثى حقلًا للتأويل، لا للتجريم. أما أنتم، فلكم محاكم الدنيا، ولنا نحن الكتّاب محكمة المجاز، ومحكمة التاريخ، ومحكمة الضمير.

‏August 10, 2025

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.