منعم سليمان

إذا أردنا أن نلتمس العلّة الكامنة وراء هذا الانحدار المروّع الذي يعيشه الجيش على جميع الأصعدة، وجب أن نغوص إلى *جذر الداء التاريخي*، حيث الخراب الذي بدأ *عام 1989 بفعل سياسة التمكين*، يوم أُزيحت الكفاءات الوطنية المؤهَّلة، ليحلَّ محلَّها طوفان من العناصر الحزبية الإسلامية؛ أصحاب الأجساد المترهلة والعقول الضامرة، المجبولون على الاستعداد الأبدي للكذب والخيانة والفساد.

*منذ ذلك التاريخ* الذي تحوّل فيه الجيش السوداني إلى جناح عسكري للإخوان (الكيزان)، انحدر إلى درك سحيق من الانحطاط والتردي: تأهيلاً وعقيدةً وعدةً وعتاداً، لم يبلغه جيش وطني في كافة أرجاء هذا العالم الكبير.

أمس الأول، قرّر جيش الكيزان شنّ الحرب على دولة الإمارات الشقيقة، فتأبّط كذباً، متوسلاً في ذلك أداة بائسة هي القناة الرسمية *تلفزيون السودان*، وهي قناة قبيحة وفقيرة شكلاً ومضموناً، صارت إحدى أكبر محفّزات الاكتئاب والتعاسة!

ولأنها قناة وُلدت لتسويق *”الأكاذيب الوطنية”* وقيادة القطيع الداخلي، ليس لديها مهارات التضليل الخارجي كـ *”قناة الجزيرة”* مثلاً فقد اندفعت في تلفيق رخيص، وداست على أصول المهنة الإعلامية، ثم غلبها الغرور بباطلها، فغفلت عن أنها *تنطق بلسان الدولة، وأن ما يخرج من شاشتها لا يُنسب إلى المجهول، بل يُحسب على الدولة ذاتها!*. وهكذا دقت طبول فضيحة عالمية مدوّية!

أمس الأول، خرجت القناة بخبر مرتبك الصياغة، على هيئة قالب تقريري عابس الملامح؛ زعمت فيه *أن الجيش دمّر “طائرة إماراتية تقل مرتزقة كولومبيين” أثناء هبوطها في مطار نيالا بدارفور، كانوا في طريقهم لمساندة قوات الدعم السريع*، وأن الحادث أودى بحياة ما لا يقل عن أربعين مرتزقاً كولومبياً!

ولا بأس، ولكن البأس الشديد، أن هذه *الآلة الإعلامية الإخوانية (الكيزانية)* التي تتحكّم في خطاب الجيش كما أسلفنا ــ اعتادت أن تصنع أكاذيبها على مقاس الداخل، معتمدة على شبكة ترويج واسعة على مواقع التواصل، مهمتها تحويل الأكاذيب إلى “حقائق” تُغذَّى بها عقول شريحة محدودة من عوام الناس، ممن نشأوا في ظلام عهد الكيزان البائد، حيث التبلّد المكتسب، والخمول الفكري، وغياب العقل النقدي، والتسليم الكامل الغبي.

لكنها هذه المرة اصطدمت بجدار مختلف لم تحسب حسابه؛ فإذا بها أمام جمهور ليس جمهور الداخل المستسلم، بل *رأي عام عالمي، وصحافة دولية ذات قواعد مهنية رصينة وصارمة لا ترحم، تتحقق وتتثبت وتدقق*. إذ سرعان ما انتشر الخبر انتشار حريق في هشيم يوم ريح، وتحول إلى قضية رأي عام عالمي، خصوصاً بعد أن دوّن الرئيس الكولومبي *غوستافو بيترو* على منصة X قائلاً إنه قد طلب من سفيرة حكومته في مصر التثبّت من صحة مقتل أربعين كولومبياً في السودان، بل وطالب باسترداد رفاتهم.

وفجأة، انقضّت وسائل الإعلام الدولية والحكومات الغربية على القصة تفكيكاً وتحقيقاً، فوجد مروّجو الكذبة أنفسهم عراة أمام *أسئلة لم يعتادوا سماعها. وإذا بهم يتلعثمون أمام مصطلحات لم يعرفوها من قبل*، مثل: GPS، وSatellite Tracking، وSecondary Radar، وأدلّة مادية مثل الرفات والجثث والحمض النووي، إضافة إلى نوع الطائرة وطرازها وصندوقها وهيكلها .. فضلًا عن إخضاع تقريرهم لفحص إعلامي صارم كشف هشاشته.

وإذ بالعالم يتفاجأ أنه أمام رواية خيالية بائسة لا تصلح لمخاطبة خيال الأطفال؛ ليس فيها طائرات أو إمارات أو كولومبيا، وإذا بالقوم يتحولون إلى مادة للتندر والفكاهة *في برامج التوك شو الكولومبية*، وإذا بنا نطأطئ رؤوسنا بين الأمم، خجلاً منهم كما تعودنا!

*لقد مثلوا بنا كثيراً يا غوستافو!*

هكذا تحوّلت الحكاية، وخرجت من كونها خطة خبيثة على طريقة “كيد النساء” إلى فضيحة عابرة للقارات، وبدأ الارتباك يعصف بأوساطهم، واشتعلت دوائر التلاوم بينهم، فيما لاذ بالصمت الجيش الذي أسقط الطائرة في *أوهامه* وقتل المرتزقة الكولومبيين *الخياليين*، وابتلعت سلطة بورتسودان لسانها، وكأن الأمر لا يعنيها من قريب أو بعيد!

أرادوا أن يفضحوا الإمارات كذباً، فإذا بالإمارات ودون أن تتحرّك تفضحهم وتذلّهم على مرأى ومسمع من العالم أجمع.

وهكذا سقط القناع عن أسطورة *”الجيش الوطني”* التي نسجوها على مدى عامين، فإذا بنا أمام جيش إخواني مهزوم، صُنع من كذبة واهية ذابت تحت نور الحقيقة سريعاً، وأُسدِل الستار على مهزلة الأكاذيب… وانتهى الدرس.

*إن الجيش البائس لا ينتج إلا بؤساً*.

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.