أمد/ في عالمٍ يتأرجح بين انهيار النظام القديم وتعثر ولادة نظام جديد، لا تُبرم التفاهمات ولا تُرسم خرائط النفوذ عبر خطابات عصماء أو بيانات رسمية أو قمم معلنة، بل من خلال لقاءات ثنائية محسوبة بدقة، وصفقات تُدار على نار هادئة، تشبه في ملامحها الأولية مؤتمرات المُلَّاك (المنتصرين) بعد الحرب… دون أن يُعلن أحد رسميّاً عن انتصاره هذه المرة.
في أبو ظبي، وبكين، ومار الاغو MarALago، لا تُرفع أعلام النصر، لكن تُدار حوارات لترتيب قواعد اشتباك جديدة تُعيد تعريف موازين الردع، تماماً كما حدث في مؤتمر يالطا بعد الحرب العالمية الثانية، المسبوق بلقاءات تمهيدية في كل من القاهرة وطهران، حيث اجتمع “المُلّاك الثلاثة” لتقاسم العالم على أنقاض الدمار والخراب.
يالطا 1945… من التاريخ إلى الرمزية
في فبراير 1945، اجتمع كل من ستالين، وتشرشل، وروزفلت في منتجع يالطا بشبه جزيرة القرم. سُمّي ذلك المؤتمر في الأدبيات السياسية بـاجتماع الثلاثة الكبار، أو اجتماع القرم ونسميه اجتماع المُلّاك (دول المكز) ووفقاً لنظرية المُلّاك والمماليك، المبنية على قانون الغزو وتوازن القوى، لأن جوهره تقاسم الغنائم، ورسم خرائط ما بعد الحرب (تقسيم الكعكة).
تم خلال المؤتمر تقسيم ألمانيا، وتحديد مصير أوروبا الشرقية، والتفاهم حول تأسيس الأمم المتحدة، وبدء هندسة عالم ثنائي القطبية. ورغم اختلاف السياق التاريخي، فإن التقارب الحالي بين بوتين وترامب، ثم ترامب وشي جين بينغ، يعيد إلى الأذهان مشهداً موازياً… لكن هذه المرة بلا إعلان، وبلا نصرٍ واضح.
لقاءات ثنائية… ولكن!
ما يجري اليوم بين واشنطن، وموسكو، وبكين، يُرتّب له كلقاءات ثنائية ظاهراً: قمة مرتقبة بين بوتين وترامب لبحث ملفات أمنية واستراتيجية تخص أوكرانيا وأمن أوروبا. ولقاء محتمل بين ترامب وشي جين بينغ، تحت مظلة الملف التجاري، وإعادة صياغة الاتفاقات الاقتصادية.
لكن خلف هذه اللقاءات تقبع رسائل أعمق: إعادة ترسيم حدود النفوذ، وتثبيت مراكز القوة، وإعادة تعريف من يملك القرار العالمي. فاللقاء بين بوتين وترامب لا يُقرأ فقط من بوابة أوكرانيا، بل من باب مصير القطب الغربي برمّته. أما لقاء ترامب وشي، فلا يمكن عزله عن حرب التكنولوجيا، وسلاسل الإمداد، والمشهد الجيوسياسي في بحر الصين وتايوان.
خضوع المماليك (المهزومين)
ربما يبدو التعبير صادماً للبعض، لكنه واقعي: القوى الإقليمية الضعيفة، أو التابعة، أو دول المحيط، تدخل هذه المرحلة بصفتها مماليك مهزومين أمام مُلّاك كبار يعيدون توزيع رقعة الشطرنج… أو أحجار الدومينو. فالمفاوضات الجارية لا تعني فقط من يربح أو يخسر، بل تعني من يُسمح له بالوجود أصلًا على الطاولة.
والخطر الأكبر أن العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط، في هذه اللحظة التاريخية الراهنة، ليس فاعلاً ولا شريكاً في هذه التفاهمات، بل مجرد ساحة اختبار لتوازنات المُلّاك، وإن ظهرت فيها قوى ناشئة أو صاعدة. أو واعدة.
يالطا جديدة بلا إعلان
بكل المقاييس ما نشهده حالياً هو يالطا جديدة تُطبخ بهدوء، دون ضجيج المؤتمرات الدولية، ولا بلاغة الخطابات العصماء، ولا حتى قاعات التصويت في مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة..
إنها هندسة سياسية محكمة لنظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، تتشكل ملامحه عبر خطوط طيران خاصة، ولقاءات مغلقة، وصفقات سرّية تُحدّد مصير المماليك. خطورتها لا تكمن فقط في محتواها، بل في كونها لا تعترف بالضعفاء، ولا تُمهل المترددين، ولا تعطي مكاناً لمن ينتظر دوره… بل لمن يمتلك الشجاعة ويصنع الحدث فقط.
نعم، اللقاءات وإن بدت ثنائية في الشكل، إلا أنها فعلاً تُنذر بيالطا جديدة تُطهى على نار هادئة؛ حيث تجري عملية إعادة هندسة لمناطق النفوذ تحت غطاء الملفات الأمنية والاستراتيجية والاقتصادية، وبمحتوى يشير إلى تقارب رؤى وتفاهمات غير معلنة، تشمل: أوكرانيا وبحر البلطيق، بحر الصين الجنوبي وتايوان، الشرق الأوسط وإفريقيا، والنظام المالي العالمي (خاصة بدائل الدولار).
وهذه هي حقيقة أفول “القرن الأمريكي”، الذي بدأ بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية في تسعينيات القرن الماضي، إذ لم تعد الولايات المتحدة قادرة على فرض إرادتها منفردة، رغم امتلاكها أدوات القوة الصلبة والناعمة. وهو ما يدفعها، ولو على مضض، إلى السعي نحو تفاهمات كبرى مع الخصوم، بدلاً من المواجهات المباشرة.
الخلاصة: من المالِك؟ ومن المَملوك؟
العالم يُعيد ترتيب نفسه بصمت، والقوى العظمى ترسم خرائط المستقبل بعيداً عن عواصم الأطراف. ولا يُشترط أن تُعقد يالطا الثانية في قصر مطلّ على البحر الأسود؛ فقد تُرسم ملامحها بين أبو ظبي، وبكين، ومارا لاغو.
إنها يالطا جديدة بلا إعلان، يُعيد فيها المُلّاك (دول المركز) توزيع النفوذ، بينما يراقب المماليك (دول المحيط) المشهد من بعيد وبالتالي هم إما خارج اللعبة… أو مجرد أدوات داخلها. فهل نعي ما يجري فعلاً؟ وهل نملك الجرأة لنفرض أنفسنا ونكون جزءاً من القرار الدولي، لا مجرد جزء من الخريطة؟