د. الهادي عبدالله أبوضفائر
في تخوم الذاكرة التي لا تعرف النوم، تمتد “أم سعونة” كحلمٍ تأخّر عن موعده، كأنها انتظرتنا على هامش الزمن، هادئةً في ابتعادها، بعيدةً عن ضجيج المدن وضوضاء الخرائط. لم تكن مجرّد قرية، بل كانت تجسيداً للمعنى حين ينبت من الأرض، وكانت خشبة المسرح الأولى التي وقفت عليها أرواحنا لتتعلم الإصغاء للعالم. فيها، لم يكن الجمال درساً نظرياً، بل نسمةً تهبُّ في الصباح، أو ضحكة طفل تسبق الحروف، أو حضن أمّ تنسى نفسها في سبيل الآخرين. كان الناس فيها لا يُسألون عن قبائلهم، بل يُعرفون بصفاء قلوبهم. التعدّد لم يكن عبئاً، بل لحن انسجامٍ شفيف في معزوفة الحياة. عشنا فيها كأننا خلية نحلٍ واحدة، لكلٍّ منا دوره، لكن العسل كان للجميع. الطفولة لم تكن زمناً، بل كانت طريقة في النظر، أسلوباً في العيش. نركض بين البيوت دون أن نعرف الفرق بين بيتنا وبيت الجيران، فكل بيتٍ كان لنا، وكل وجهٍ مألوف، وكل كبيرٍ كان مرآةً نهتدي بها. لم يكن الكبار يربّوننا بالخطب، بل بالصبر. كانوا يعلّموننا أن التربية ليست قولاً، بل حياة تُعاش.
في صدر الحكايات التي تُروى عند الغروب، يجيء اسمٌ لا يزال يُهمَس به كأنّه دعاء، أو نَفَسٌ من زمن الطمأنينة: عبدالله إدريس أبوضفائر. لم تكن عمامته زينةً يُفاخر بها، بل ظلّاً يُلقيه على من حوله. كان إذا عبر، خفّت خطى الريح، وإذا صمت، نابت عنه مواقفه، وكانت أبلغ من الخُطب. رجلٌ لو تجسّد الحنان في صورة، لكان هو. إلى جواره، يمضي اسم العم خليفة أحمد بدوي، ذاك الجار الذي لم يكن يعرف الحواجز، فبيته امتداد لبيوت الناس، وصدره متّسع الجميع. ثمّ العم النور حامد فاكهة القرية، ضاحكٌ حكيم، كان يعلّم دون أن يتكلّف، ويغرس الجِدّ في ثنايا المزاح، كأن كلماته تسبق يده في المصافحة.
وإن شئت الحديث عن الأناقة حين تتصالح مع البساطة، فاذكر العم محمود حامد، ذاك الرجل الذي إن مرّ، شعرت أنّ العطور قرّرت أن تسير على قدميه، لا ترفاً، بل لأنه كان يسبق زمانه بذوقٍ هادئ، وأناقةٍ بلا ضجيج. إلى جواره، كان العم محمد نور حماد، أنيقاً كأنّ هيبته تُفصّل له ملابسه بخيوط الذوق والصمت، لا يحتاج إلى كثير ليقول الكثير. ثم العم أبكر حماد، رجلٌ تمشي الحكمة في خطواته، لا يتكلم كثيراً، لكنك إذا رأيته، أدركت أن في الصمت بياناً لا يُقرأ إلا بعين القلب. أما العم حامد دوشو، فسكينته كانت كفيلة أن تُهدّئ الضجيج، صوته لا يرتفع، لكنه إذا نطق، لان له الحجر قبل البشر. وفي وجوه العم سعدان، وآدم أبكر، وقدّال، ترى ملامح الوقار العتيق، كظلّ شجرةٍ كبيرة في حرّ الهجير، لا تقول شيئاً، لكنها تمنحك الطمأنينة دون أن تطلبها.
ولأن القرى لا تحفظ أسماء أهلها إلا من بوّابة الرحمة، فإنّ ذكر عبدالرحمن ضو البيت لا يمرّ خفيفاً. كان إذا داوى جسداً، رقّ قلباً، وكأن في يديه بعضٌ من بلسم الكون. إلى جانبه، العم آدم إبراهيم، لم يكن يطبب كصنعة، بل كمن حُمّل أمانةَ الشفاء، كأن في عينيه ضوءاً خفيّاً يشفي قبل أن يلمس. هكذا عرفنا العم حسبون، الذي كان يربى الأبقار وكأنّه يحرس الحياة. والعم آدم ضياء الدين وأخوه حامد، يملكان موهبة نادرة. الإصغاء للأنين الذي لا يُقال، وفهم الأوجاع التي لا تجد لغتها. وإن أردت أن ترى الضحكة وهي ترتدي هيبة السنين، فاذكر العم أب دافن، حيث كانت لعبة “الضُمُنه” عنده أكثر من تسلية، كانت فنّاً، حكايةً، ومجلس تعليمٍ شعبيّ يتقاطع فيه الضحك مع الحكمة. وخال الجميع، قنقر، الذي كانت جلساته أشبه بمسرح مفتوح، تكتب فيه القرية تاريخها على لسان الضحك، وتسجّل أحلامها. وهناك، أولئك الذين تسكنهم الهيبة الصامتة، الشيخ الحاج بخيت، العمدة شرف الدين، العم محمد إدريس. وجوهٌ كأنك تراها فتشعر بأنك عدت إلى جذورك، لا مجرد تراب. معهم كان العمر ينمو بلا ضجيج، كما تنمو الأشجار في هدوء، في ظلّهم كبرنا دون أن نشعر، وتشكّلت أرواحنا على مهل.
حين يتسلّل صوت الأذان في الفجر، كهمسة أمّ توقظ أبناءها برفق، كان الفكي عبد الكريم. صوته لا يشبه النداء فحسب، بل يُشبه خشوع الأوقات الأولى وندى الصباح. ومن على عتبة الزهد والتربية، الإمام الفكي إبراهيم، الفكي إسماعيل، وعبد الرحمن حبيب، وشمو عباس والطاهر حسابو. رجال لم يُلقوا المواعظ، بل عاشوا كما تُعاش الطمأنينة. بهدوء، وصدق، واستقامة. وفي السوق، بين البضائع ورائحة التوابل، كان العم أحمد إمام، موسى آدم، عبد الرحمن آدم، عبد الله محمد إدريس، التوم احمد وأحمد على والخياط موسى جندو، وآدم تيراب. رجالٌ كانت أرزاقهم مفتوحة، لا يُغلقون باباً في وجه جار، ولا يعرفون الاستئثار. امتلكوا المال، لكنهم لم يسمحوا له أن يمتلكهم. وهناك، من بقي أثره أكثر حضوراً من صوته، الفكي موسى والفكي آدم تولبجو، رجال لم يكن مجرد أسماء، بل ظلال يُذكر كما تُذكر البركة في الماء. هكذا كانت (أم سعونة) لا تصنع الكبار، بل تلدهم. قريةٌ تُربّي أبناءها حتى بعد أن يغادروها، تحفظ أسماءهم كما يحفظ القلب أمانيه، وتكتب تاريخها لا بالمباهاة، بل بمداد الامتنان.
وكان هناك اصحاب المال، حملوا مشاعل الكدّ اليوميّ دون ضجيج. هارون أبورجيلة، الزين عبدالله، جدو أحمد، حنظل، محمد عبدالله ضيفة التوم احمد وعباس ود الفكي، والتجاني أبكر. عُرفوا بالكدّ لا بالادّعاء. ومن أهل الحِرف: الزيات محمد عبدالله، آدم مستور، والعم الوقور سعدان التوم، رجالٌ لم يعرفوا الاستعراض، لأنهم جُبلوا على السجية. أما نورين حامد، عيد آدم، عبدالنبي الطالب، الجزار سنين، وود الجراج وهارون ود داري، فكانوا كأعمدة البيوت، لا تصيح، لا تتفاخر، لكنها تحمل، وتحمي، وتُفهمك أن الحياة لا تحتاج إلى صخب لتكون عظيمة. ومن العلماء الزاهدين، الفكي خاطر، سليمان جرن، الفكي محمد آدم، محمد أحمد إدريس ، والعم خليل بشر، رجال لم يعيشوا لأنفسهم، بل للجماعة. كانوا إذا زرع أحدهم، أكل الجميع. وإذا مرض فرد، سهر الحيّ بأكمله. الطفل هناك لم يكن يُربَّى بيدٍ واحدة، بل بألف يد. وكان يُلام، لا بعنف، بل بوجهٍ تملأه المحبة. فيها، لم نتعلّم الجمال من الألوان، بل من البساطة. ولم نعرف الإخاء من الشعارات، بل من الصحن المشترك، ومن الكلمة الطيبة، ومن حلمٍ صغيرٍ حافٍ، يمشي على قدمين ويتّسع معنا كلما ابتعدنا عنها. فهل من وطنٍ يشبه قريتنا؟ وهل من زمنٍ يُضاهي تلك اللحظات الأولى التي سكنت أرواحنا قبل أن نسكنها؟ ربما لا. فما نحن عليه الآن، ليس إلا ظلّاً طويلاً لطفولةٍ مشمسة، عشناها هناك، حيث كانت الحياة تُربّي كما تُزهر الأزهار.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة