د. هشام عثمان

في ظل الانحدار المريع في مستوى الوعي السياسي، باتت المبادرات الوطنية الخالصة تُستقبل بشك وريبة، وتُعرض على ميزان الولاءات الضيقة، لا على محك المصلحة العامة. النموذج الصارخ لهذا السقوط في الوعي الجماهيري والسياسي هو ما تعرض له فرع الحزب الشيوعي السوداني بمدينة عطبرة، عقب إطلاقه مبادرة رائدة لإصلاح شبكة إمداد الكهرباء بالمدينة، وسعيه الجاد للتفاهم مع وزير البنية التحتية بشأن تنفيذ هذا المشروع الحيوي. وبينما كان من المفترض أن يُقابل هذا الجهد بالإشادة والتقدير، تفجرت حملة هوجاء ضد الحزب، شارك فيها أصحاب الأجندات المتسخة، وسابلة العمل العام، وذوو النفوس المشوشة الذين لا يعرفون من العمل السياسي سوى كيل الاتهامات الجاهزة لكل من يخالفهم.

المبادرة، في جوهرها، لم تكن فعلاً سياسياً للتطبيع مع النظام القائم كما زعم المرجفون، بل تجسيد حيّ لفلسفة الحزب الشيوعي التاريخية في العمل بين الجماهير، كوسيلة لبناء الوعي، وتحسين الواقع، وتحويل السياسة إلى ممارسة اجتماعية يومية ترتبط بلقمة العيش، وحق المواطن في الكهرباء والماء والدواء. فالحزب الشيوعي لم يكن يوماً حزب بيانات وخطابات، بل حزب مواقف عملية، ومناضلين ميدانيين، يعرفون أن السياسة في أوضاع الانهيار العام لا يمكن أن تنفصل عن معاناة الناس، ولا عن التزام وطني عميق يجعل من خدمة المواطن أولوية، حتى ولو تم ذلك عبر مؤسسات أمر واقع لا يعترف الحزب بشرعيتها السياسية، لكنه لا يعارض استخدامها لتحسين حياة الناس.

إن اللقاء الذي تم بين وفد الحزب ووزير البنية التحتية لا يمثل تقارباً سياسياً ولا تنازلاً عن موقف مبدئي، بل هو تعبير عن وعي متقدم يميز بين التواصل الخدمي المشروع والتطبيع السياسي المرفوض. فالحزب لم يغيّر موقفه من سلطة البرهان الانقلابية، لكنه لم يسجن نفسه في مربع المقاطعة العقيمة، التي لا تعني سوى ترك الجماهير لمصيرها تحت رحمة الفساد والإهمال. هذا الفهم العميق للعمل السياسي هو ما يجعل الحزب الشيوعي مختلفاً عن غيره، إذ يرى الحزب أن السياسة ليست فقط نضالاً فوقياً ضد السلطة، بل هي أيضاً قدرة على اقتناص الفرص لفرض الأجندة الجماهيرية حتى من داخل تضاريس الواقع المعقد والمشحون بالتناقضات.

الهجوم الذي واجهته هذه المبادرة كشف عن بؤس الشانئين وضحالة وعيهم السياسي، حيث عجزوا عن رؤية القيمة الوطنية لفعل كهذا، وانشغلوا بإطلاق شعارات التخوين، دون أن يقدموا بديلاً عملياً واحداً لما أنجزه الحزب في عطبرة. ومما يزيد الأمر سوءاً أن قطاعاً واسعاً من العامة صار يعيد إنتاج هذا النوع من الخطاب العدمي، غير مدركين أن من يشتمونه اليوم هو من يعمل لأجلهم، ومن يسعون لإفشاله هم من لا يملكون لهم نفعاً. وهنا تتجلى المأساة الحقيقية في المشهد السياسي: أن تتحول القوى الوطنية الواعية إلى هدف للهجوم، بينما تفلت القوى الانتهازية من النقد، بل وتُقدَّم على أنها حَكَم في ميزان الوطنية.

أزمة العمل السياسي في السودان، في ظل تآكل المعنى، باتت أكثر وضوحاً من أي وقت مضى. إذ لم يعد كثير من الفاعلين يفرقون بين العزلة السياسية المبدئية، التي تُبنى على رفض الانخراط في شرعنة الانقلابات، وبين القطيعة الشاملة التي تُفرغ العمل السياسي من محتواه الخدمي والاجتماعي. في هذا السياق، تبدو مبادرة الحزب الشيوعي درساً عملياً في كيفية مواجهة الانهيار لا بالشعارات، بل بالفعل، وفي كيفية تحويل أدوات السلطة القائمة إلى وسائط ضغط وانتزاع للحقوق.

لا يمكن لهذه المبادرات أن تُفهم وتُحترم إلا في إطار وعي جديد، يُعيد تعريف السياسة بوصفها وسيلة لبناء الوطن لا مجرد صراع على السلطة. المطلوب اليوم هو تجاوز ثقافة التشكيك المجاني، وبناء وعي جماهيري يدرك أن الأحزاب الحقيقية ليست من تكتفي بالتصريحات، بل من تذهب حيث الألم، وتحاول ترميم الواقع بأدواتها المتاحة، دون أن تفرط في مواقفها أو تتخلى عن مبادئها. وقد أثبت الحزب الشيوعي عبر مبادرة عطبرة أنه لا يزال وفياً لرسالته التاريخية، ولقناعته العميقة بأن خدمة الجماهير هي جوهر العمل السياسي، لا مجرد لافتة تُرفع.

في وقت تتقزم فيه السياسة إلى مهاترات ومنشورات على وسائل التواصل، يبدو الحزب الشيوعي، رغم كل الحملات، حزباً عظيماً لأنه ببساطة يعمل حيث لا يجرؤ الآخرون، ويبادر حيث يتقاعس الآخرون، وينتمي إلى الناس لا إلى أي سلطة، ويتعامل مع الدولة كأداة لا كغاية. لذلك، فإن هذه المبادرة ليست فقط إنجازاً خدمياً، بل أيضاً إعلاناً عن حضور أخلاقي ووطني نادر في زمن الرداءة.

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.