أ.د إبراهيم البدوي

تحدثنا في المقال الرابع عن المنهج الذى اعتمدته حكومة الثورة لتخصيص الموارد، خاصة لجهة التمييز الإيجابي للأقاليم المتأثرة بالحروب والنزاعات والذى تم عرضه في ورقة السياسات الموسومة ” استراتيجية مكافحة الفقر من منظور بناء السلام وأهداف التنمية المستدامة في السودان: 20202030″. كانت هذه الاستراتيجية المقترحة أحد المراجع الأساسية في مفاوضات تعبئة الايرادات الاتحادية (بما في ذلك ريع النفط والمعادن) ومعايير تخصيص المنح الرأسية من الموازنة الاتحادية للولايات الثماني عشر. ففي هذا السياق فقد تمت إحاطة الفريق شمس الدين كباشى عضو المجلس السيادي وقتها قبل إحدى جولات مفاوضات جوبا عن مضمون ودلالات هذه الاستراتيجية، كما استندت عليها الأستاذة الراحلة آمنة أبكر، عليها الرحمة والرضوان، في مهمتها في تسهيل ودعم العملية التفاوضية الخاصة بهذا المحور. (لقد انتقلت الأستاذة آمنة والتي عُينت لاحقاً وكيلة للوزارة وتشرفت وزملائي بالعمل معها أثناء هذه الحرب المأساوية).
يجدر الاشارة إلى أن هذه الورقة التي أعددناها في وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي قد كانت ضمن منظومة متكاملة من المذكرات والأوراق تشمل جوانب أخرى سياسية، قانونية ومؤسسية لرفد عملية التفاوض ساهمت فيها عدة وزارات ومؤسسات حكومية إلى جانب عدد من منظمات المجتمع المدني المتخصصة في قضايا بناء السلام والتنمية.
كانت محادثات السلام مع الحركات المسلحة تُدار بواسطة “المجلس الأعلى للسلام” والذي كانت أول وأهم مهامه انجاز اتفاق جوبا (والذي تم توقيعه في الثالث من أكتوبر 2020 بين السلطة الانتقالية وكل من الحركة الشعبية لتحرير السودان قطاع الشمال (جناح مالك عقار) وحركة تحرير السودان (بقيادة مني أركو مناوي) وحركة العدل والمساواة (بقيادة جبريل إبراهيم)، بالإضافة إلى ذلك، شاركت في الاتفاق عدة تنظيمات سياسية أخرى ضمن تحالف الجبهة الثورية. تجدر الإشارة إلى أن حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور والحركة الشعبية لتحرير السودان قطاع الشمال (جناح عبد العزيز الحلو) لم يكونا جزءاً من هذا الاتفاق).
في سياق المفاوضات التي انتظم فيها أطراف التفاوض زار الخرطوم في مايو 2020، على ما أذكر، وفد المقدمة لحركتي دار فور وكان بقيادة الدكتور محمد بشير أبو نمو (حركة تحرير السودان ) والأستاذ أحمد تقد (حركة العدل والمساواة)، حيث كان ملف قسمة الموارد والثروة ونصيب إقليم دارفور منها على رأس أولياتهم. ضم الاجتماع من الجانب الحكومي الأستاذ محمد حسن التعايشي عضو المجلس السيادي وقتها، دكتورة مباهج حبيب، الخبيرة القانونية، الدكتور الراحل حسان نصر الله، وكيل وزارة الحكم الاتحادي الأسبق، والذى وافته المنية في أبريل الماضي، عليه الرحمة والرضوان، وشخصي الضعيف.
ناقشنا هذه القضايا في اجتماعين، كان أولاهما أثناء وجودهما في الخرطوم والثاني أسفيريا بعد عودتهم إلى جوبا. قدمت شرحاً للقياديين الزائرين عن معايير قسمة الموارد في سياق الاستراتيجية المقترحة لمكافحة الفقر وبناء السلام، مشدداً على أن هذه الاستراتيجية منصفة لإقليم دارفور كما لكل مناطق السودان المتأثرة بآثار الحروب والنزاعات وأشرت الى أن الاقليم، بناءً على هذه الاستراتيجية، سيحصل على تدفقات استثمارية بمعدل خمسمائة مليون دولاراً سنوياً لمدة عشر سنوات، تُموَّل من الموازنة الاتحادية، كما أننا نتوقع انطلاق برنامج “دعم الأسر” (المدعوم من البنك الدولي ودول أصدقاء السودان) والذى يستهدف مكافحة الفقر على مستوى الأسر في كل السودان، بما في ذلك دارفور. ثمن الاخوة قياديا الحركتين هذا التوجه لمخاطبة جذور قضية النزاعات والحروب عن طريق استراتيجية شاملة لتوظيف الموارد ومكافحة الفقر، إلا أنهم أشاروا إلى أنه بالنظر إلى أن دارفور كانت الساحة الأكثر تأثراً بالحروب الأهلية، فانهم يعتقدون أن دارفور بحسب تقديرهم تحتاج لمليار ونصف المليار دولار سنوياً لإعادة الإعمار ومعالجة آثار الحرب. عليه، تقدموا بمقترح بأن يعطى إقليم دارفور، إضافة للخمسمائة مليون دولار سنوياً، امتياز استغلال موارد باطن الأرض الحالية والمكتشفة مستقبلاً في دارفور لمدة يُتفق عليها حتى يتم إنجاز استحقاق معالجة آثار الحرب وإعادة إعمار الإقليم.

تحدثت نيابة عن الجانب الحكومي بأن تخصيص الموارد في باطن الأرض (النفطية والمعدنية) يجب أن يراعي أحد أهم المبادئ المعتمدة عالمياً والتي اثبتناها في ورقة الاستراتيجية وهى أن هذه الموارد في الأساس موارد قومية تؤول للسلطة الاتحادية وفى هذا الإطار تخصص نسب محددة (من إجمالي إنتاج الولاية) لكل الولايات المنتجة على قدم المساواة، إضافة إلى القسمة الرأسية للموارد من الموازنة الاتحادية بصورة تعطي تمييزاً إيجابياً للولايات والمجتمعات الأكثر فقراً. أيضاً حاججت بأننا إذا أقرينا هذا المبدأ، سيكون في حكم المؤكد أن تطالب الولايات الأخرى، مثل ولايتي جنوب وغرب كردفان اللتان تنتجان بالتوالي 52 و48% من إجمالي انتاج النفط بالبلاد، أو ولايتي نهر النيل والبحر الأحمر، حيث كان بحسب بيانات العام 2020 يُستخرج 43 و35%، بالتوالي، من انتاج الذهب بالبلاد. عليه، سيكون من الصعوبة بمكان مقاومة مثل هذه المطالب الولائية، الأمر الذى سيعيق قدرة الحكومة الاتحادية على تمويل الاستراتيجية وكذلك يؤدى إلى تعميق التفاوت التنموي الجهوى وبالتالي مفاقمة أزمة التهميش، خاصة أن بعض هذه الولايات المنتجة، مثل ولاية نهر النيل، تحظى بمؤشرات جيدة نسبياً في مجالات التعليم والصحة والبنيات التحية وغيرها من روافع النمو ومكافحة الفقر.
رغم تباين الرؤى إلا أن الحوار الذى تم في الاجتماع الأول والذى تلاه كان مفعماً بروحٍ وطنيةٍ بناءةٍ، حيث انتهينا إلى مطالبة من الزميلين دكتور ابو نمو واستاذ أحمد تقد بأن تقدم الحكومة ما يثبت توفرها على الموارد المالية الكافية لتمويل ما سيتم الاتفاق عليه بشأن استراتيجية قسمة وتخصيص الموارد المزمعة. من وجهة نظر وزارة المالية كجهة معنية بهذا الاستحقاق، أحطت الاجتماع بأننا سنعمل على رقمنة ديوان الضرائب وجهاز الجمارك في سياق اصلاح مؤسسي واسع مما يمكن معه زيادة تعبئة الايرادات الحكومية في المديين المتوسط والبعيد. إضافة إلى ذلك فان عملية إنجاز الإصلاح الاقتصادي وإعادة تأهيل السودان في مجتمع التنمية الدولي ستتيح إمكانية الحصول على منح تمويل الموازنة والقروض المدعومة من برنامج “المساعدة الإنمائية الدولية” International Development Assistance: IDA))، فضلاً عن الاستثمارات المؤسسية والخاصة التي ستصبح ممكنة كنتيجة لإعفاء الديون ومعالجة المخاطر التمويلية المترتبة عليها. تحديداً، أشرت إلى أن دولة أثيوبيا تتلقى منحة سنوية لتمويل موازنتها تزيد عن ثلاثة بلايين دولار، بالنظر لعدد سكانها الذى يفوق المائة مليون نسمة ونسبة الفقر العالية بها. عليه، بالنظر إلى أن حجم سكان السودان يناهز 40% من سكان أثيوبيا أتوقع أن يحصل السودان على مليار دولار سنوياً على أقل تقدير.
فور انتهاء اجتماعنا مع وفد المقدمة كتبت رسالة للأخ دكتور حافظ غانم، نائب رئيس البنك الدولي لمنطقة أفريقيا جنوب الصحراء في ذلك الوقت، بشأن التطمينات المطلوبة من الإخوة في وفد التفاوض. الأخ حافظ صديق وزميل سابق، تعرفت عليه منذ مطلع التسعينيات عندما التحقت بالبنك الدولي. سياتي المجال للحديث عن مساهماته القيمة في دعم السودان لكن سأذكر على عجالة أنه قد كان وراء عملية ترتيب دفع مؤخرات السودان للبنك عن طريق منحة من برنامج “المساعدة الإنمائية الدولية” وذلك حتى يتسنى إعادة تأهيل السودان كعضو فاعل في البنك الدولي، هذه المؤسسة التنموية الهامة التي كما سأبين في المقال القادم قد كان لها دوراً فاعلاً في دعم التحولات الاقتصادية في معظم الدول التي كان لديها مشروعاً وطنياً جاداً من أثيوبيا إلى فيتنام وحتى الصين. يٌحسب أيضاً للأخ دكتور حافظ دوره في عملية تمويل برنامج حكومة الثورة لدعم الأسر، حيث أستطاع تمرير اعتماد تمويل 400 مليون دولار من البنك الدولي مما سهل إمكانية الدعم الثنائي من دول أصدقاء السودان الذين قدموا ال 400 مليون دولار الأخرى في مؤتمر أصدقاء السودان الذى عُقد أسفيرياً باستضافة الحكومة الألمانية.
أرسلت إلى دكتور حافظ الرسالة التالية (في السادس من مايو 2020) كرد على رسالتي بشأن إمكانية دعم الموازنة لتمويل استراتيجية مكافحة الفقر وبناء السلام، والتي سأورد نسختها العربية (المترجمة من الانجليزية) أدناه بدون تعليق.
“عزيزي إبراهيم،
إذا نجح السودان في الحفاظ على الاستقرار والحكم الرشيد الشامل، ومعالجة التحديات الاقتصادية من خلال برنامج مع صندوق النقد الدولي، وسداد متأخراته، فإننا نتوقع أن يستعيد السودان إمكانية الوصول إلى موارد المؤسسة الدولية للتنميةIDA) ). والمؤسسة الدولية للتنمية هي أكبر مصدر لتمويل التنمية في البلدان الفقيرة، وتهدف إلى الحد من الفقر من خلال توفير قروض ومنح لبرامج تعزز النمو الاقتصادي، وتقلل من التفاوتات، وتحسن الظروف المعيشية للسكان.
نظراً لحجم سكان السودان، ورهناً بالأداء الجيد في مجال الإصلاحات، نتوقع أن يحصل السودان على موارد تزيد عن مليار دولار خلال دورة المؤسسة الدولية للتنمية التاسعة عشرة. والأهم من ذلك، أن الوصول إلى المؤسسة الدولية للتنمية سيتيح أيضاً الحصول على موارد أخرى للاستثمار (على سبيل المثال من مؤسسة التمويل الدولية) ومعالجة التحديات الاقتصادية العميقة التي تواجه السودان.”

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.