نعرض في هذا المقال كيف تؤثر زيادة الرسوم القضائية على سلوك الأفراد، مما يدفع البعض إلى التخلي عن المسار القانوني واللجوء إلى وسائل غير قانونية لحل نزاعاتهم.

الإنسان إذا قُيّد من الوصول إلى حقه بوسيلة مشروعة، فقد يسعى إليه بوسيلة غير مشروعة. وتظهر هذه الحالة بوضوح عندما ترتفع الرسوم القضائية إلى حد يعوق البعض عن التقاضي، فيتحوّل النزاع سواء كان مدنياً، أو تجارياً، أو غير ذلك من مسار قانوني مشروع إلى أحد الأفعال التي يُجرمها القانون.

حين لا يجد المتقاضي طريقاً ميسراً لاسترداد حقه، ولا يتمكن من اللجوء إلى بدائل مثل التحكيم لارتفاع تكلفته أو تعقيد إجراءاته، يبقى أمامه خياران يصعب قبولهما: إما التنازل ضمناً عن حقه، أو اللجوء إلى وسيلة غير قانونية لتحقيقه، كأن يقدم على التهديد أو الاعتداء أو الإكراه.

وعند النظر في أي قانون يُفرض على المجتمع، من الضروري مراعاة التنوع الكبير بين أفراده من حيث القدرات المالية والاجتماعية. ما قد يكون بسيطاً على فئة معينة، قد يتحول إلى عبء ثقيل على فئة أخرى. ولهذا، لا يكفي النظر إلى نص القانون فقط، بل يجب دراسة أثره الواقعي على الأفراد.

لذلك، من الضروري أن يسبق أي تعديل تشريعي تقييم شامل لمختلف جوانب تأثيره، الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، بما يضمن أن يكون القانون منصفاً وقابلاً للتطبيق على الجميع دون تمييز أو إقصاء.

وقانون الرسوم القضائية هو قانون تنظيمي ينظم خدمة التقاضي، من خلال تحديد الرسوم التي يتحملها المتقاضون مقابل الحصول على هذه الخدمة.

وهذا يجعله ذا تأثير مباشر على حق الوصول إلى العدالة، وهو حق دستوري جوهري.

وفي حين أن زيادة الرسوم قد تكون ضرورية لضمان استمرارية خدمة القضاء، ونحن لا نرفض فكرة الزيادة، لكن ينبغي أن تكون هذه الزيادة تدريجية ومعقولة مع مرور الوقت، بحيث لا تشكل عبئاً مفاجئاً وغير مبرر على المتقاضين.

فالتحول من نظام شريحتين فقط في القانون القديم إلى خمس شرائح في القانون الجديد يمثل زيادة كبيرة وغير متدرجة، تفوق نصف الرسوم السابقة، مما يرفع العبء بشكل مفاجئ ويثير مخاوف حول تأثيره السلبي على حق الوصول إلى القضاء.

بناء على ذلك، قد تظهر آثار سلبية واضحة لهذه الزيادة، حيث «يتحول» الفرد من صاحب حق يسعى لاسترداده بطرق قانونية مشروعة، إلى شخص يلجأ إلى وسائل غير قانونية، مما قد يدفعه إلى الوقوع في دائرة الجريمة.

وهذا التحول ليس لحظياً، بل نتيجة تراكمات وضغوط:

أولاً: اصطدام الفرد بتكلفة التقاضي التي أصبحت مرتفعة.

ثانياً: البدائل القانونية مثل التحكيم لم تكن خياراً عملياً، سواء لارتفاع التكلفة أو عدم الوعي أو عدم التفعيل.

ثالثاً: تراكم الضغط النفسي والاجتماعي جعله يشعر بأن القانون لا يحميه.

وأخيراً: بدأ يبحث عن حلول خارج الإطار القانوني، هنا يظهر الخطر!

في هذه الظروف، لا يصبح الفرد مجرماً بمحض إرادته، بل لأن الوسائل القانونية للحصول على حقه أغلقت في وجهه.

وبذلك قد تظهر سلوكيات مجرمة مثل:

1 التهديد لإجبار الخصم على الدفع خارج القضاء.

2 الابتزاز باستخدام معلومات خاصة لتحقيق مكاسب مالية.

3 الاعتداء كرد فعل بعد فشل المحاولات السلمية.

4 التحايل أو النصب كوسيلة بديلة لاسترجاع الحقوق.

وغيرها من الجرائم التي قد تنشأ من إحساس الفرد بعدم توفر الحماية القانونية.

هنا يكمن الأثر غير المباشر للقانون:

فالقانون الذي أُعد لضبط الحقوق وتنظيمها، قد يؤدي دون قصد إلى تقويضها، عندما يفرض أعباء يعجز الفرد عن تجاوزها، فيدفعه إلى سلوكيات غير قانونية.

فبدل أن تؤدي زيادة الرسوم إلى تقليل الدعاوى، قد يحدث العكس، انخفاض في الدعاوى المدنية وارتفاع في القضايا الجزائية، نتيجة تحول بعض أصحاب الحقوق إلى سلوكيات غير قانونية، ليس عن قصد إجرامي، بل بسبب انسداد السبل النظامية.

وهكذا، يتحقق عكس الهدف، ويتراجع الاحتكام للقضاء المدني، في حين تزداد أعباء النيابة العامة والمحاكم الجزائية بملفات كان يمكن تجنبها لو ظل طريق التقاضي ميسراً وعادلاً.

المصدر: جريدة الجريدة

شاركها.