خطاب الكراهية في حرب السودان موجه ضد المدنيين خاصة من هم ضدها ويتم وصفهم بالعمالة والخيانة إلى جانب ممارسات تصفية الناس على أساس انتمائها الجغرافي، وفقاً لما قالت اختصاصية نفسية لـ (التغيير).
التغيير: نيروبي: أمل محمد الحسن
كانت عبارة “قحاتي” كافية لأن يتلقى “س” صفعة على وجهه وتنهال عليه اللكمات!. بدأت القصة، وفق شاهد عيان، إلى أن أحدهم كان ينتظر صديقه في أحد مقاهي القاهرة وفور رؤيته نادى عليه بعبارة “يا قحاتي” (وهي عبارة تعني أحد أعضاء تحالف الحرية والتغيير الذي مثل الحاضنة السياسية للحكم في الفترة الانتقالية عقب سقوط نظام البشير) فهاجمه أحد الموجودين وانهال عليه ضربا حتى تدخل الناس وفضوا النزاع وبعد أن هدأ المكان شرحوا للمعتدي بأن هذا الشخص لا علاقة له بالحرية والتغيير وأن صديقه يمازحه ليس إلا، فعاد الرجل معتذرا!
قوائم مجهولة
فور اندلاع الحرب انتشرت في مجموعات الواتساب قوائم مجهولة المصدر تضم عشرات السياسيين والنقابيين والصحفيين متهمين بإشعال الحرب وكان هناك تحريض بالعنف في مواجهتهم.
كان اسم الصحفي “محيي الدين جبريل” ضمن تلك القوائم الأمر الذي أثر في استقراره المهني والاجتماعي “أصبحت أواجه عزلة اجتماعية وأصبحت اتجنب التجمعات”.

الصحفي محيي الدين جبريل: وصلتني عشرات الرسائل التهديدية بالقتل.. وأواجه عزلة اجتماعية
وقال جبريل لـ (التغيير) إنه تلقى عشرات الرسائل التهديدية بالقتل، ورسائل تطالبه بالكشف عن مكان إقامته بعبارات من قبيل: “إن كنت رجلا أخبرنا بمكانك”!
وأعرب جبريل عن حزنه وأسفه كون أن من يقود التحريض ضده هم من أفراد العائلة ومنطقته الجغرافية، وأخيرا قرر أن يتجه للقانون ليحمي نفسه وهو الآن ينتظر تقديم الشخص الذي يهدده للمحاكمة بعد أن تم التحقيق معه.
خطاب ممنهج
خطاب الكراهية تجاه المدنيين وخاصة السياسيين لم يأت بصورة عفوية بل تشكل بصورة منهجية لتصوير المدنيين ك”عدو داخلي” يُحمَّل مسؤولية كل الأزمات فيما يوفر الحماية للعسكريين وفق رئيس تحرير أفق جديد عثمان فضل الله.
وقال فضل الله لـ (التغيير) إن هذا الخطاب السائد الآن يمثل امتدادا لخطاب الشيطنة الذي بدأ منذ سقوط البشير وتصاعد بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021 حين فشلت السلطة في تقديم بدائل واقعية فلجأت إلى تصدير الأزمة نحو “المدني”.
عثمان فضل الله: تهديد خطاب الكراهية يتعدى السياسيين لتجريم فكرة التحول المدني نفسها

وأعاد رئيس تحرير أفق جديد اقتناع الجمهور بهذا الخطاب لجهة سيطرة المنصات العسكرية على وسائل الإعلام خاصة الرسمي إلى جانب الحملات الإلكترونية الممنهجة التي شيطنت الأحزاب السياسية. وأكد فضل الله أن ترسيخ هذه الصورة تم مع غياب خطاب مدني واضح وموحد خاصة وأن التيارات المدنية تعاني من انشقاقات أعجزتها عن الدفاع عن تجربتها.
وحذر فضل الله خلال حديثه لـ (التغيير) من تحول الخطاب التحريضي لأرضية خصبة للعنف السياسي والاجتماعي خاصة في ظل انعدام سياسة القانون وانتشار السلاح وتكاثر المليشيات.
وقال فضل الله إن الخطورة الأكبر من هذا الخطاب تتمثل في أن تهديده يتعدى السياسيين والمدنيين لتجريم فكرة التحول المدني نفسها “العنف الذي يحضر له لا يهدد الأشخاص فقط بل مشروع الدولة المدنية بالكامل”.
التحشيد للحرب
خطاب الكراهية كان السبب خلف جرائم كبيرة على مستوى العالم، مثل الإبادة الجماعية التي حدثت في رواندا في العام 1994 عبر اذاعات كانت تصف التوتسي ب”الصراصير” نازعة عنهم صفة الإنسانية، فيما ساهم خطاب الكراهية في تأجيج الحرب الأهلية وتحويل المدن لمقابر جماعية في البوسنة.
وأشار المدير القطري لمعهد الحياة والسلام عبدالله الصافي، إلى أن العالم تنبه لحضور خطاب الكراهية في أغلب النزاعات حول العالم خلال ال75 عاما الماضية ما دفع الأمم المتحدة للسعي عبر المفوضية العليا لحقوق الإنسان في تحركات فعلية لمعالجته.
وقال الصافي لـ (التغيير) إن خطاب الكراهية ساهم في إشعال حرب السودان التي انطلقت في بيئة هشة ومتداعية اجتماعيا تحمل في داخلها عوامل كامنة للنزاع محذرا من أن استمرار هذا الخطاب سيساهم في استدامة الحرب وتطورها لحرب اجتماعية شاملة.
المدير القطري لمعهد الحياة والسلام: المؤسف بعض الدوائر الرسمية تستخدم خطاب الكراهية في التحشيد للحرب
وفي حديثه مع (التغيير) أشار المدير القطري لمعهد الحياة والسلام إلى استخدام أطراف النزاع لعبارات جارحة وعنيفة تستهدف مكونات اجتماعية تحاول الحض من قدرها بناء على صفات متعلقة بالعرق والأصل الاثني والمنطقة الجغرافية “مثلما يوصف البعض بأنهم غير سودانيين”.
وحذر الصافي من أن وصف النساء بأوصاف مذلة يمكن أن يؤدي إلى تعرضهن لانتهاكات جنسية عنيفة مشيرا إلى ان الحرب اندلعت في عصر رقمي ما يوفر الانتشار للخطاب العنيف لأكبر عدد وهذا يضربالتركيبة الاجتماعية.
ودعا الصافي إلى ضرورة تضافر الجهود من كافة الفاعلين ابتداء من الحكومات والمنظمات والإدارات الأهلية لوقف هذا الخطاب ومعاقبة من يقودوه لأن استمراره سيمنع الذهاب نحو بناء السلام.
واستدرك قائلا: “المؤسف أن بعض الدوائر الرسمية تتبنى هذا الخطاب وتستخدمه في التحشيد للحرب”.
خطاب الكراهية جريمة
اتفق مع الصافي الخبير القانوني المعز حضرة الذي قال إن خطاب الدولة الرسمي يشتمل على خطاب كراهية “والي نهر النيل صرح بقتل أي وجه غريب!”.
وأكد حضرة على أن مؤسسات الدولة يجب أن تلتزم الحياد تجاه الجميع وتحميهم مشيرا إلى أن القتل يتم على الهوية في مناطق تعدين الذهب بولاية نهر النيل.
خبير قانوني: منذ اندلاع حرب 15 أبريل لم يحاكم أي شخص بخطاب الكراهية.. والنيابة مطية في يد الاسلامويين

واتهم الخبير القانوني خطابات الإسلامويين بالجهوية والعنصرية معربا عن أسفه من عدم تقديمهم لمحاكمات “النيابة أصبحت مطية في يد الاسلامويين بعد عودتهم للسلطة”.
وفي حديثه ل”التغيير” أشار حضرة إلى المفارقات في استخدام القانون لمعاقبة السياسيين والناشطين وحتى قتلهم كاشفا عن اشتمال القانون الجنائي السوداني لعام 1991 لمواد تجرم خطاب الكراهية والإساءة للقبلية في المواد: 63، 64، 65. بالإضافة لأن قانون جرائم المعلوماتية بجميع تعديلاته يجرم استخدام الوسائط لخطاب الكراهية.
وأضاف: القوانين الدولية ايضا تجرم خطاب الكراهية وجريمة الإبادة الجماعية التي تحاكم به المحكمة الجنائية الدولية هو في الأساس خطاب كراهية. “لكن مع الأسف منذ اندلاع هذه الحرب لم يحاكم أي شخص بخطاب الكراهية”.
الصمت عن العنف مشاركة
خطاب الكراهية لا يأمر الناس بالعنف مباشرة؛ بل يمهد له عبر منحه غطاء اخلاقي ليصبح مبررا! والعنف لا يبدأ بالسلاح بل بالتعود على اللغة العنيفة أولا ثم استخدامها ثم قبول العنف أو المشاركة فيه أو الصمت عنه “حيث نصل لمرحلة تبلد أمام معاناة الآخرين”.
هكذا عرفت الاختصاصية النفسية مي قرشي المهتمة بتأثير خطاب الكراهية على الصحة النفسية المجتمعية خطاب الكراهية قائلة إننا عندما نعمل على تفكيكه من منظور نفسي نكتشف أنه ليس مجرد شتائم أو نوبات غضب عابرة بل هي آليه دفاع جماعية تخلق شعور وهمي بالتماسك.

اختصاصية نفسية: الجلالات العسكرية تحتوي على خطاب كراهية
وقال قرشي في حديثها لـ (التغيير) إن خطاب الكراهية في حرب السودان موجه ضد المدنيين خاصة من هم ضدها ويتم وصفهم بالعمالة والخيانة إلى جانب ممارسات تصفية الناس على أساس انتمائها الجغرافي.
وأضافت: هذا الخطاب يستخدم عبر دعاة الحرب من الطرفين، وفي الجلالات العسكرية ومعسكرات التجنيد وفي الشتائم الموجهة ضد النساء.
وأشارت قرشي إلى أن قاموس الحرب أوجد عبارات جديدة تبيح العنف مثل “فتك، متك، جغم..” كاشفة عن تأثيرها على الحالة النفسية بشكل عميق. وقالت: “الناس لا تستمع فقط لكن العقل يتشبع”.
ووصفت الاختصاصية النفسية الصمت عن خطاب الكراهية بمشاركة في العنف “كل كلمة نسمح بها تحولنا لأن نكون حلقة في دائرة الخراب”.
وأضافت: الإنسان لا يولد عنيفا لكنه يتربى على العنف بشكل يومي. وشددت على أن الوقوف ضد الحرب لا يعتبر موقفا سياسيا بل اجراء وقائي وعلاجي حد وصفها “المجتمع الذي يتشرب الكراهية يتسمم ويفقد آخر خط دفاع ضد الانهيار الكامل وهو التعاطف”.
المصدر: صحيفة التغيير