أمد/ منذ قيامها، أتقنت إسرائيل لعبة الحرب النفسية وصناعة الرواية المُضللة، مقدّمة نفسها أمام العالم على أنها “الكيان الصغير الضعيف” المهدَّد وجودياً وسط محيط من الأعداء. هذه الصورة الرومانسية المزيّفة لا تستهدف فقط التعاطف الدولي، بل تُستخدم كأداة سياسية لتبرير الحروب العدوانية في استهداف الكيانية الفلسطينية وسحق أي مشروع وطني فلسطيني.

لكن الواقع على الأرض يكشف حقيقة مغايرة تماماً. ففي عدوانها الأخير على غزة، مارست إسرائيل فائض قوة عسكرياً غير مسبوق، شنّت من خلاله حرب إبادة مدمرة استهدفت البشر والحجر، قتلت عشرات الآلاف من المدنيين، ودمّرت مدن ومخيمات بأكملها كما دمرت كافة البنية التحتية في قطاع غزة، وألحقت خراباً واسعاً بمقومات الحياة. كانت حرباً لإلغاء الوجود الفلسطيني، في عملية تهجير واسعة لسكان قطاع غزة، مترافقة مع حرب سياسية موازية تستهدف القضاء على أي إمكانية لقيام كيان فلسطيني مستقل.

الرواية الإسرائيلية: من “جالوت الفلسطيني” إلى انتصار “الفتى داوود الإسرائيلي”

في إطار هذه الحرب الإعلامية، روّجت وسائل الإعلام الإسرائيلية، ضمن غطاء تضليلي تحت اكذوبة  “تسريبات الصور”، روايات عن مقتل يحيى السنوار في اشتباك مسلح. هذه القصة بصورها وإخراجها لم تكن عفوية؛ بل كانت نتاج عمل ماكينة دعائية ممنهج، ضخّمت صورة السنوار وقدّمته كـ”جالوت الفلسطيني” المدرع بالحديد والسلاح، الذي هزمته وقتلته “أصغر وحدة” في جيش الاحتلال، على غرار “الفتى داود” في الرواية التوراتية، وهو أصغر جندي في جيش طالوت الذي قتل جالوت زعيم العماليق والقائد  العسكري لجيوشهم.

هذا الاستحضار للموروث الديني التوراتي كان مقصودًا لاستثارة المشاعر الإسرائيلية واللوبيات المسيحية الصهيونية في الغرب، وتغذية الإحساس بأن المعركة ذات بُعد ديني أسطوري مقدّس.

في المقابل، لم تكن رواية قيادة حماس أكثر صدقًا. فمنذ بداية الحرب، أطلقت الحركة سيلًا من الشعارات الحماسية والأفلام الدعائية التي تضخم قدرتها العسكرية وتوحي بامتلاكها اليد العليا في المواجهة. وقد تبنت بعض المنصات الإعلامية، وعلى رأسها قناة الجزيرة، هذا الخطاب الذي أراد تصوير الحركة كقوة لا تُقهر، قادرة على إلحاق خسائر جسيمة بالاحتلال. مستخدمة جوقة منمن الدجالين تحت اسم محللين عسكريين وسياسيين على شاكلة سعيد زياد والدويري.

لكن الواقع كشف أن هذه الدعاية كانت فقاعة خطابية سرعان ما انفجرت أمام صور الحقيقة القاسية على الأرض : عشرات آلاف الشهداء من المدنيين، غالبهم من النساء والأطفال، ودمار شبه كامل للمباني وللبنية التحتية في غزة.

ومن الأمثلة الصارخة على أكاذيب وتضليل دعاية حماس ، تصريح القيادي في حماس غازي حمد الذي قال إن “الغرب يعترف اليوم بدولة فلسطين كأحد منجزات السابع من أكتوبر”. هذا التصريح تجاهل أن الاعترافات الرمزية الموعودة التي صدرت من بعض الدول الأوروبية اازالت لم تُترجم إلى خطوات عملية، ولم توقف المذبحة أو تمنع الاحتلال من التوغل والتدمير ولم توقف أو حتى تحد من سياسة التجويع الممنهج. وكأن قيادة حماس تقبل بكل ما حصل من دمار شامل وقتل وتهجير هو الثمن المقبول لدى قيادة الحركة مقابل “اعترافات رمزية” لا تغيّر شيئًا في الواقع السياسي أو الميداني.

 إسرائيل تلقفت هذا التصريح بسرعة، وروّجت له باعتباره دليلاً على أن ما يُسمّى بـ”إنجازات السابع من أكتوبر” ما هي إلا مكافأة لحماس وتعزيز للإرهاب، بهذه الطريقة، استفادت الدعاية الإسرائيلية من تصريح حمد في اتجاهين: الأول، تعزيز خطابها بأن حماس هي من جرت على غزة كارثة غير مسبوقة مقابل مكاسب وهمية، والثاني، تكريس فكرة أن أي اعتراف غربي بفلسطين هو بالأساس “مكافأة للإرهاب”، مما يُضعف شرعية هذه الخطوة سياسياً في الساحة الغربية.

في النهاية، لم تنجح ماكينة الدعاية الإسرائيلية ولا بروباغندا حماس في إخفاء الحقيقة الميدانية: مشاهد  أشلاء المدنيين أطفالاً ونساء، ولا مشاهد الأمهات، والأطفال الجائعين وهم يتدافعون أمام تكيات الطعام، ولا مشاهد عشرات الآلاف تتدافع خلف شاحنات المساعدات، وفي مصائد الموت في صورة تُعيد إلى الذاكرة مشاهد لعبة الحبار رأفلام الزومبي، كما تعيد مشاهد أزمنة المجاعات والحصارات المروعة. هذه المشاهد هزّت ضمير العالم وأطلقت موجة غضب شعبي ورسمي ضد سياسات الاحتلال، لتكشف أن جوهر المعركة ليس صراع أساطير أو انتصارات وهمية، بل حرب إبادة تستهدف شعبًا أعزل.

الحرب الأخيرة لم تكن مجرد مواجهة عسكرية؛ بل كانت حرب روايات. إسرائيل ضلّلت جمهورها والعالم بادعاء “الضعف المهدَّد وجودياً”، مع استخدام فائض قوة تدميرية ساحقة في كافة الساحات، وتحقيق إنجازات استرلتيجية، فيما سعت قيادة حماس لبيع الوهم وخداع جمهورها وجمهور البسطااء في العالم العربي والإسلامي بادعاء “النصر الاستراتيجي”. وبين أكاذيب الطرفين، بقيت الحقيقة جليّة: شعب محاصر يتعرض للإبادة، وقيادتان—إسرائيلية وحمساوية—تتقنان صناعة الأكاذيب.

شاركها.