بروفيسور إبراهيم أحمد البدوي

تحدثنا في المقال الثاني عن أن ما يجرى في بلادنا منذ نشوب هذه الحرب الكارثية هو مشروع استباحة شاملة لكل موارد البلاد ظاهرها من ثروة حيوانية ونباتية وحتى رمال الصحراء وكذلك باطنها من ذهب ونفط وغيرهما من المعادن وأن هذه الصفقة المليشياوية المدمرة هي وليد شرعي وضرورة حتمية لتمويل مشروع الفتنة الحربية وستظل سائدةً طالما استمرت هذه الحرب. بالمقابل سنستعرض في هذا المقال والذي يليه مشروع حكومة ثورة ديسمبر الانتقالية لاقتسام الموارد والرؤية التي يستهدى بها هذا المشروع الوطني الباذخ، استناداً إلى ورقة سياسات أعددناها في وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي للمجلس الأعلى للسلام في إطار مفاوضات جوبا بين السلطة الانتقالية وحركات “الكفاح المسلح” (بحسب توصيف ذلك الزمان). لقد أُعدت هذه الورقة الموسومة” استراتيجية مكافحة الفقر من منظور بناء السلام وأهداف التنمية المستدامة في السودان: 20202030″ من قِبل “وحدة البحوث والسياسات” بالوزارة.
كوزير للمالية والتخطيط الاقتصادي، أنشأت هذه الوحدة لدعم صناعة السياسات بالوزارة بالأبحاث العلمية الرصينة وقد عمل فيها كوكبة من شباب الثورة، أذكر منهم أحمد المجتبى محجوب والزاكي الحلو الأساتذة بكلية الاقتصاد، جامعة الخرطوم. وقد كانت هذه الوحدة بإشراف أستاذهم الراحل المقيم الدكتور كباشي مدنى سليمان، والذى لقى ربه راضياّ مرضياّ، شهيداً بإذن الله تعالى في نوفمبر 2024 وهو محتبساً في منزله في إحدى أحياء العاصمة التي شهدت أشرس المعارك في هذه الحرب المأساوية. لقد كان أستاذنا الراحل بروفيسور على عبد القادر، عليه الرحمة والرضوان، يعتبر دكتور كباشي أحد أعظم الاقتصاديين السودانيين على الإطلاق وهذه شهادة لا تدانيها شهادة من مفكر اقتصادي بقامة بروفيسور على عبد القادر. وأنا أيضاً أتفق معه تماماً، حيث كتبت في رثاء المرحوم كباشى، “ألا رحم الله الأخ الحبيب دكتور كباشي مدنى سليمان، الإنسان الخلوق المتواضع، العالم الزاهد في هذه الدنيا الراغب في طلب العلم والتعلم والذي كان بحراً زاخراً في علم الاقتصاد أفاد به طلابه بجامعة الخرطوم وشركاء بحوثه المتعددة في السودان وشبكات البحوث الأفريقية والعربية وغيرها من مراكز ومنابر أبحاث التنمية والسياسات. لقد تشرفت بالعمل مع دكتور كباشي في عدة أوراق اكاديمية وتقارير وأوراق سياسات وقد ساهم الفقيد في دعم وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي حيث أشرف على وحدة البحوث والسياسات أثناء تولىّ الوزارة في أول حكومة انتقالية بعد ثورة ديسمبر المجيدة.”

 

لقد أعد الورقة الآنفة الذكر الأستاذ أحمد المجتبى والذى أيضاً أعد ورقة أخرى هامة عن خطة إصلاح تسعير المحروقات، بينما ساهم الأستاذان الزاكي الحلو وأحمد المجتبى في إعداد بيانات وأدبيات المفاوضات مع صندوق النقد الدولي والتي وضعت البلاد في مسار إعادة التأهيل في مجتمع التنمية الدولي وإعفاء حوالى خمسين مليار دولاراً أمريكياً من إجمالي ديون البلاد البالغة وقتها سته وخمسون ملياراً (بالقيمة الحالية الصافية للعام 2021)، إضافة إلى انفتاح آفاق منح تمويل الموازنة والقروض المدعومة الممولة من برنامج “المساعدة الإنمائية الدولية” International Development Assistance: IDA))، والاستثمارات المؤسسية والخاصة والتي سأتحدث عنها في المقال القادم.
كنت في تلك الأيام خلال وجودي على رأس وزارة المالية أسعى للتبشير بآفاق الإصلاح الاقتصادي والتبصير بفداحة تركة الإنقاذ الكارثية، حيث كنت أصف البلاد بأنها محتبسه في “حفرة عمقها ستون مليار دولار”. كانت البلاد قد قطعت شوطاً بعيداً في التأهيل لمشروع “الدول الفقيرة المثقلة بالديون” في سياق مفوضات نادى باريس
(Countries HIPC: Highly indebted Poor) وبالتالي الخروج من هذه الحفرة السحيقة الي فضاء الانتقال الاستثماري والمشروع النهضوي. لابد من الإشارة الا أن كلفة تمويل اعفاء ديون السودان كانت تقدر بحوالي ثلث مجمل موارد برنامج ال HIPC منذ انشائه في العام 1996، بينما كانت كلفة إعفاء ديون أكثر من 30 دولة فقيرة استفادت من هذا البرنامج حوالي الثلثين فقط، مما يعنى أن إعفاء ديون السودان كان سيشكل استحقاقاً وطنياً عظيماً في مسيرة البلاد نحو الانعتاق من “غلبة الدين” الذى تعوذ منه سيدنا محمد (صلعم)، وهذا الدين كان ولا يزال أحد أفدح جرائم نظام الإنقاذ الاقتصادية: بالله عليكم، هل هناك خيانة وطنية أفدح من القيام بذلك الانقلاب المشئوم وتفويت هذه الفرصة الثمينة والتي لم تكن ستسنح لولا انبهار العالم بهذه الثورة العظيمة وشبابها الأبطال.

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.