بروفيسور مكي مدني الشبلي

 

بروفيسور مكي مدني الشبلي

مقدمة: من حرب هامشية إلى لغز عالمي تحوّلت الحرب في السودان، والتي اعتبرها بعض الفاعلين الدوليين في بدايتها مجرد صراع محلي بين جنرالين متنافسين، إلى نقطة ارتكاز في لعبة إقليمية أوسع واختبار حقيقي للدبلوماسية العالمية. وقد كشف إلغاء مؤتمر واشنطن بشأن السودان في يوليو 2025، نتيجة ضغوطات غير معلنة من مصر والإمارات، عن حقيقة أعمق: هناك “فيتو عكسي” بدأت تمارسه بنجاح دول صغرى طالما عانت تاريخياً من فيتو الكبار. فعادةً ما يكون الفيتو امتيازاً للقوى الكبرى، لكن في الحالة السودانية، باتت قوى إقليمية متوسطة، مثل مصر والإمارات، تملك تأثيراً غير متناسب، تعرقل به جهود السلام التي تقودها القوى الغربية، وتعيد تشكيل الاقتصاد السياسي للسودان وجغرافيته السياسية. ولم يعد الفيتو العكسي مجرد ظاهرة مؤقتة، بل أضحى سمة بنيوية في النظام الجديد للحرب والاقتصاد والدبلوماسية في السودان بشكل يصعب تجاوزه. وليس من المبالغة القول إن الفيتو العكسي قد أصبح اليوم أحد أخطر التهديدات التي تواجه السودان، ليس فقط بوصفه ساحة صراع، بل ككيان سياسي ووجداني يسعى للاستقلال عن التبعية والوصاية. ففي لحظة حرجة من تاريخ السودان، لم تعد القرارات الدولية بشأن وقف الحرب أو استئناف العملية السياسية تُتخذ بناءً على إرادة السودانيين أو وفق قواعد الشرعية الدولية، بل باتت رهينة لمزاج العواصم الإقليمية التي تحتكر مفاتيح الميدان، بدعم وتغاضٍ من القوى الكبرى التي اختارت المقايضة بدلًا من المبدئية. هذا المقال يسلط الضوء على نظرية الفيتو العكسي كأداة لقراءة الواقع السوداني الراهن، ويطرح تساؤلاً ملحاً: كيف نواجه هذا النوع الجديد من الهيمنة، الذي لا يفرض إرادته فحسب، بل يمنع قيام بدائل وطنية قابلة للحياة؟ لقد طال أمد معاناة السودانيين، لا بسبب الحرب وحدها، بل لأن القرارات المصيرية المتعلقة بوقفها تُخطف خارج الحدود، بفعل شراكة بين المال والنفوذ والمصالح الضيقة. أولاً: ما هو الفيتو العكسي؟ “الفيتو العكسي” هو مصطلح يُستخدم لوصف قدرة الفاعلين الإقليميين، رغم محدودية قوتهم الرسمية مقارنةً بالقوى العظمى، على عرقلة أو إحباط المبادرات الدولية باستخدام نفوذ مستمد من القرب الجغرافي والدعم المالي والعسكري واللوجستي. ففي السودان، تمارس مصر والإمارات هذا الفيتو من خلال دعمهما لأطراف الصراع: القاهرة تدعم القوات المسلحة السودانية (الجيش)، وأبوظبي تدعم قوات الدعم السريع. ويتجاوز هذا الدعم البعد العسكري ليشمل التمويل، والإمدادات، وطرق التهريب، والوصول إلى الموانئ، والتحكم في مسارات الهجرة، وحتى التأثير في المشهد الإعلامي والدبلوماسي. لذا، فإن أي مبادرة سياسية أو تفاوضية لا تُراعي حسابات هاتين القوتين الإقليميتين، تكون عرضة للفشل، مهما بلغت جديتها أو قوة رعايتها الدولية. ثانياً: تداعيات جيوسياسية فوضى متعددة الأقطاب يعكس الفيتو العكسي حالة التفكك المتزايدة في النظام الدولي. فبينما تواصل الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي إصدار بيانات تطالب بوقف إطلاق النار وتوفير المساعدات الإنسانية والانتقال الديمقراطي، فإنها تفتقر إلى أدوات الضغط اللازمة وتُضطر إلى الاعتماد على شركاء إقليميين لم يعودوا محايدين. فمصر والإمارات تبنتا سياسة خارجية مستقلة، جريئة، وذات طابع براغماتي. وقدرتهما على إجهاض مؤتمر واشنطن، بحجة غياب تمثيل الجيش والدعم السريع، تُظهر حدود الدبلوماسية الغربية في عالم متعدد الأقطاب. وتدعم روسيا والصين ضمنياً هذا النهج، إذ توفران مظلة سياسية لمواقف القاهرة وأبوظبي من خلال معارضتهما للقرارات الغربية في المحافل الدولية، مما يكرّس حالة “الفوضى متعددة الأقطاب” في ملف السودان، ويديم حالة التشظي والتضارب في المسارات التفاوضية. • دعم الإمارات للدعم السريع وفقاً لتقرير خبراء الأمم المتحدة وسجلات طيران مرصودة تحدّد أكثر من 100150 رحلة جوية من الإمارات إلى شمال تشاد بين مايو وسبتمبر 2023، علّقت بالدعم العسكري للدعم السريع عبر تهريب الأسلحة والذخائر والمركبات والطائرات بدون طيار. • الأسلحة المصنعة في الصين أو صربيا مثل قنابل GB50A الموجّهة ومدافع AH 4 عثر عليها ميدانياً في الخرطوم ودارفور، واستُخدمت بواسطة الدعم السريع. التحقيقات أظهرت مصدرها الإمارات (وهي الدولة الوحيدة المستوردة لهذه الأنظمة) رغم نفي أبوظبي. • إعادة تأكيد النفوذ المصري خلال اشتباكات مطار مروي أبريل 2023 حيث تم احتجاز جنود مصريين أثناء تدريبات مشتركة مع الجيش السوداني، في إشارة واضحة إلى تموضع أمني مباشر للقاهرة داخل الأروقة العملياتية السودانية. وهذه السيطرة الميدانية والإمدادية المؤثرة تتيح لمصر والإمارات الردع الفوري لأي مبادرة لا تمر عبرهما. ثالثاً: التأثير على الاقتصاد السياسي الحرب كسوق إقليمية رائجة خلقت ديناميكية الفيتو العكسي اقتصاد حرب له أبعاد إقليمية ودولية حيث تستفيد الإمارات من استمرار الصراع عبر سيطرتها غير الرسمية على سلسلة إمداد الذهب من مناطق سيطرة الدعم السريع، بينما تستخدم مصر الحرب لتأمين حدودها الجنوبية، وتعزيز موقفها في مفاوضات سد النهضة، وضمان السيطرة على طرق التجارة في البحر الأحمر. وفي الوقت نفسه، أصبح الدعم الإنساني وإعادة الإعمار يُستخدمان كأدوات للنفوذ الناعم، حيث تُوجَّه الموارد إلى الأطراف الموالية وتُمنع عن المعارضين. وهكذا، أضحى الاقتصاد السوداني يعاد تشكيله وفق مصالح الجهات الداعمة للحرب، وليس وفق منطق التنمية أو الاستقرار. وهذا التداخل يُربك عمل المانحين والمنظمات الدولية، ويضعهم أمام معضلة: هل يتعاونون مع القوى الإقليمية لتمرير الدعم ويخاطرون بتعزيز شبكات الرعاية السياسية؟ أم يتجاوزونهم ويواجهون الفشل في التنفيذ؟ • بلغ انتاج السودان من الذهب في عام 2024 نحو 64 طناً، محققة إيرادات رسمية تقارب 1.57 مليار دولار، لكن ما يُقدر بـ 5080% من الإنتاج كان يُهرّب، معظمها إلى الإمارات عبر شبكات الدعم السريع والتهريب غير الرسمي . • صادرات الذهب السوداني إلى الإمارات تشكّل نحو 91% من صادرات السودان، بإجمالي 1.6 مليار دولار، بحسب مصادر رسمية من صندوق الثروة السيادي الإماراتي. • ساعدت قناة فضائية تابعة للدعم السريع في تجميع رؤوس الأموال وتقديم الدعم اللوجستي لقوات الدعم السريع، مدعومة بشكل غير مباشر من الإمارات والدولة العميقة. وبهذه الطريقة، أصبحت الحرب مصدر دخل مباشر لقوى إقليمية، مما يضعف الحافز لإنهائها. رابعاً: الكارثة الإنسانية دبلوماسية مؤجلة، وحقوق مهدرة • بلغ ضحايا الحرب منذ اندلاعها في أبريل 2023 نحو 16,650 قتيلاً، وتشير التقديرات إلى أكثر من 11 مليون نازح داخلي وتهجير مليونين خارج البلاد. • شهدت الحرب انتهاكات جدية سجلتها منظمات حقوقية، بعضها يُعد جرائم حرب أو إبادة، خاصة في دارفور، حيث استخدمت قوات الدعم السريع القوة بمنهجية موجهة ضد المدنيين. • المساعدات الإنسانية مُقيّدة من قبل كل طرف مسلّح، وتُستخدم كوسيلة ضغط سياسي وليس خدمة إنسانية إذ تُمنح أو تُمنع بحسب الولاء. ولا يُعفي هذا المنظمات الدولية، التي تجد نفسها في موقف صعب بين الحياد المهني ومتطلبات الواقع الأمني والدبلوماسي المفروض من قبل داعمي الحرب. وأثناء كل هذه المآسي غير المسبوقة، يحبط الفيتو العكسي كل محاولة لتنسيق وصول عادل وفعّال للمساعدات، حيث تصبح الحياة للمواطن السوداني معركة سياسية موازية لساحة الحرب. النتيجة أن العمل الإنساني في السودان أصبح ضحية أخرى لفيتو عكسي يمنع، أو يُعقّد، وصول الدعم إلى المحتاجين. خامساً: فراغ الشرعية حكومتان بلا دولة أدى الفيتو العكسي إلى إدامة حالة الانقسام المؤسسي في السودان. حيث توجد حكومتان متنافستان: إدارة يقودها البرهان في بورتسودان، وواجهة مدنية الدعم السريع في نيالا. وكلاهما يفتقر إلى الشرعية الشعبية، ويعتمد على الدعم الخارجي للبقاء. وفي مقابل ذلك انقسمت القوى الإقليمية. فمصر تصر على شرعية الجيش، والإمارات تحتضن الدعم السريع. أما المدنيون والقوى الديمقراطية فغائبون عن مراكز القرار، ويُنظر إليهم كأدوات للغرب. وفي وجود هذا التشرذم يُهدد الوضع بتكريس سيناريو التقسيم الفعلي للبلاد، حيث تُحكم الأقاليم المختلفة بأنظمة أمنية متباينة، تابعة لجهات خارجية. سادساً: كيف يمكن كسر حلقة الفيتو العكسي؟ التعامل مع واقع الفيتو العكسي يتطلب استراتيجية متعددة المستويات، تشمل فيما تشمل: دعم قنوات مستقلة بتعزيز أدوار المجتمع المدني السوداني والشتات والقوى الديمقراطية من خارج قنوات القوى الإقليمية. استخدام المشروطية بذكاء بربط أي دعم عسكري أو إنساني بخطوات واضحة نحو وقف الحرب وعودة المدنيين إلى العملية السياسية. إشراك قوى دولية وإقليمية محايدة ، لإضفاء توازن على المعادلة دون استقطاب. تسمية المشكلة بوضوح باعتراف الدبلوماسية الدولية بدور مصر والإمارات في تأجيج الصراع، بدل تجاهله بداعي الحفاظ على التحالفات. تمكين السودانيين من بناء توافق جديد بتشجيع تكوين تحالفات وطنية تتجاوز الانقسام العسكري وتعيد تعريف الشرعية على أسس ديمقراطية وسلمية. خاتمة: من يملك مفاتيح فك شفرة الحرب؟ لم تعد مأساة السودان أزمة محلية، بل تحولت إلى اختبار لقدرة النظام الدولي على مواجهة تحديات من نوع جديد، حيث لم تعد أدوات القوة فقط في يد الكبار، بل في يد من يسيطر على الميدان والممرات والذهب واللاجئين. إن الفيتو العكسي ليس مجرد اصطلاح تحليلي، بل هو تعبير عن مأساة أخلاقية وسياسية يعيشها السودانيون يومياً. فحين تُعطل كل مبادرة للسلام لأن طرفاً إقليمياً لا يرضى عنها، وحين تُستخدم المساعدات كسلاح، والشرعية كصفقة، فإننا أمام نظام إقليمي يسلب السودانيين حقهم في تقرير مصيرهم. إن الاعتراف بالخطر هو أولى خطوات التصدي له. فعلى السودانيين، مدنيين وعسكريين، نُخباً وقواعد، في الداخل والشتات، أن يُدركوا أن استقلال القرار الوطني يبدأ بفك الارتباط مع هندسة الوصاية الإقليمية. وعلى المجتمع الدولي أن يتحرر من ازدواجية المعايير، وأن يتعامل مع القوى الإقليمية، لا كشركاء استقرار، بل كفاعلين يُسهمون في إدامة الفوضى ما لم يُواجَهوا بسياسات حازمة. وفي بداية المطاف ونهايته، فإن الإرادة السودانية الموحدة، المدعومة بتحالفات عالمية قائمة على العدالة لا الصفقات، قادرة على كسر الفيتو العكسي، وتمهيد الطريق نحو سلام عادل يعيد للسودان سيادته ولمواطنيه كرامتهم. ولن ينتهي الصراع في السودان في جنيف أو واشنطن أو لندن أو أديس أبابا أو نيروبي. بل سينتهي عندما تقرر القوى الإقليمية أن استمرار الحرب لم يعد في مصلحتها، وبالأحرى عندما يتمكن السودانيون، رغم كل العقبات، من بناء إجماع وطني جديد يدرك منطق الفيتو العكسي ويُفرغه من محتواه، بدلاً عن إنكاره وتهميش دوره.

مداميك

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.