جاء خطاب جلالة الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لعيد العرش المجيد حاملاً لرسائل مهمة تعكس التوجهات الإستراتيجية التي يجب تنزيلها من قبل كل الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين، تجسيداً لضرورة الإسهام الجاد والمسؤول في البناء الديمقراطي والتنموي الذي أصبح من بين الركائز والثوابت التي تعتمد عليها الدولة.
ونحن على مشارف استحقاقات انتخابية تشريعية، وضع الخطاب الملكي سقفاً زمنياً من أجل اعتماد المنظومة الانتخابية، وذلك قبل نهاية سنة 2025، حيث تم تكليف وزير الداخلية الذي عقد أول اجتماع يوم السبت 2 يوليوز 2025 مع زعماء الأحزاب السياسية قصد فتح باب المشاورات السياسية احتراماً لمنهجية الإشراك في الحوار وإبداء الرأي.
قدم وزير الداخلية عرضه مؤكداً على أهمية اللحظة والبعد الإستراتيجي للخطاب الملكي كخارطة طريق لتعزيز الديمقراطية وتحقيق التنمية بمفهومها الشامل، مع الحرص على تخليق العمل الحزبي والسياسي وإشراك الكفاءات والنخب وإعطاء الفرص للشباب والنساء. أهداف نبيلة تستلزم توفير آليات فعالة كتحيين اللوائح الانتخابية ومراجعة القوانين المنظمة، وخصوصاً تلك المرتبطة بالتمويل العمومي، وعقلنة استعمال وسائل التواصل الإعلامي. الغاية الكبرى تبقى رفع نسبة المشاركة السياسية المؤسساتية، خصوصاً في فئة الشباب، الكفيلة بالتجسيد الفعلي لمقتضيات الفصل 33 من الدستور الحالي، والذي ألزم السلطات العمومية باتخاذ التدابير الملائمة لتحقيق توسيع وتعميم مشاركة الشباب في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية.
تُعتبر المشاركة السياسية أحد المعايير لمعرفة مستوى الوعي السياسي للمواطنين ومدى “شرعية” البرامج والسياسات العمومية التي يتم اتخاذها، حيث إن إشراك هؤلاء المواطنين في القرارات المرتبطة بالتنمية شرط أساس لضمان البناء الديمقراطي الجاد.
هنا لا بد لنا أن نشير إلى مفهوم آخر للمشاركة السياسية، والذي يكون من خارج المؤسسات. هذا النوع من المشاركة، والذي يأخذ شكلاً احتجاجياً من خلال مظاهرات وتجمعات، تتبناها بعض القوى الرافضة للنمط التمثيلي الانتخابي. في اعتقادي، لا بد من الاشتغال على فتح نقاش جاد ومسؤول، وفي ظل الثوابت الكبرى للبلد، حيث أجمع عليها كل المغاربة، حتى تتكاثف القوى الوطنية في البناء، لأن ما يجمعنا أكثر وبكثير مما يفرقنا، ولنا أمثلة كثيرة عندما نستقرئ تاريخنا المعاصر، وخير دليل على ذلك تلك المراجعات التي حدثت لبعض التيارات السياسية التي تبنت نهجاً سياسياً معارضاً للنظام، وأصبحت الآن تُسهم في بناء الوطن.
ما هي نسبة المشاركة السياسية بالمغرب؟ حسب بعض البيانات المتعلقة بالمشهد الانتخابي لعام 2021، والذي قدمته المندوبية السامية للتخطيط، فإن عدد السكان الذين هم في سن التصويت يفوق بقليل 25 مليون مغربي، وهو ما يمثل تقريباً 69% من إجمالي سكان المغرب. وبحسب اللوائح الانتخابية المغلقة بتاريخ 31 يوليوز 2021، هناك 17.5 مليون شخص مسجلين في هذه القوائم، أي بمعدل تسجيل بلغ 69.4%. يبقى معدل المسجلين لمن تتراوح أعمارهم بين 18 و24 سنة في 33.6%، مع نسبة تصويت لم تتجاوز 20%.
للأسف، هذه الأرقام تعكس واقعاً سياسياً يفرمل عجلة وحركية الانتقال الديمقراطي المقرون بالتنمية الشاملة، مما يستدعي الوقوف عند المسببات في أفق علاجها. هنا لا بد لنا أن نميز بين العزوف السياسي والعزوف الانتخابي. المغرب، ومنذ 2011، عرف طفرة في النقاش السياسي، خصوصاً مع تطور وسائل التواصل الاجتماعي كمنصات رقمية للتعبير عن المواقف تجاه القضايا المرتبطة بالشأن العام. التخوف هو جعل هذه المنصات بديلاً للوسائط المؤسساتية، حيث يكثر وينشط النقاش السياسي دون أثر أو بأثر ضعيف داخل الصناديق الزجاجية، والتي هي الوحيدة الكفيلة باختيار النخب السياسية التي تمارس الحكم وتقرر في السياسات العمومية التي ترهن مستقبل البلاد على رأس كل خمسة أو ستة سنوات. العزوف الانتخابي قد يكون تعبيراً عن عدم الرضا عن العرض الحزبي، أو كرد فعل لممارسات بئيسة لفئة من الانتهازيين الذين جعلوا من السياسة وسيلة للاسترزاق و”مظلة” واقية من المساءلة. تخليق العمل الحزبي وتنقيته من الشوائب أصبح مطلباً وطنياً وضرورة حتمية لإعادة الثقة في المؤسسات، ولتقوية دور الوسائط المشروعة والشرعية، حتى لا نفتح الباب أمام “ما من شأنه” أن يزيد من هوة عدم الثقة بالمؤسسات.
البناء الديمقراطي لا يستقيم إلا بوجود أحزاب تؤمن بالديمقراطية بكل تجلياتها. ديمقراطية داخلية تفرز نخبة وكوادر بمعايير الكفاءة والاستحقاق وبشرعية الإنجاز، تشارك في التأطير والترافع والاقتراح. ديمقراطية النقاش، حيث الاختلاف في الرأي إضافة في الإغناء وفي البناء. ديمقراطية التداول على السلطة، مع سمو وسيادة الإرادة الشعبية في اختيار من يمثلها، بعيداً عن جزرة المال وعصا التغول.
الأحزاب السياسية المشاركة في الانتخابات مطالبة بتقديم اقتراحاتها نهاية شهر غشت الحالي، من منطلق مسؤولياتها كشريك فعلي في بناء المؤسسات، وخصوصاً في تنزيل الرؤية الإستراتيجية للملك محمد السادس نصره الله، والتي جعلت من تعزيز المسار الديمقراطي وتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية في ظل عدالة مجالية، ووضع المغرب في مصاف الدول الصاعدة التي تلعب الأدوار الكبرى إقليمياً ودولياً، من الركائز الأساسية لمغرب الغد.
مغرب الغد، الذي استطاع أن يحقق مكتسبات ديمقراطية، والتي كلفت كثيراً من إنصاف ومصالحة و”استثناء مغربي”، ثم دستور متقدم كنتاج حراك سلمي شعاره العدالة والكرامة والتنمية في ظل ملكية جامعة وضامنة وحاضنة.
المصدر: العمق المغربي