في مقال نُشر مؤخرًا في صحيفة “زود دويتشه تسايتونغ”، طرح يورغن هابرماس ضرورة تعزيز التسلح العسكري للاتحاد الأوروبي. يجادل الفيلسوف المرموق بأن على الاتحاد الأوروبي أن يثبت نفسه كـ”قوة عسكرية مستقلة” لحماية قيمه المعيارية الأساسية والحفاظ على وزنه الجيوسياسي. هذه الأطروحة تمثل تحولًا ملحوظًا في فكر أشهر ممثلي النظرية النقدية، وتثير توترات نظرية عميقة.

يتناول هذا المقال التحول النظري الحاد في موقف الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس تجاه التسلح والسياسة العسكرية الأوروبية، كما عبّر عنه في مقاله الأخير بصحيفة “زود دويتشه تسايتونغ”. بعد أن اشتهر بدفاعه عن الديمقراطية التداولية ورفضه استخدام العنف وسيلة لحل النزاعات، يدعو هابرماس اليوم إلى تعزيز القدرات العسكرية للاتحاد الأوروبي لمواجهة التهديدات الجيوسياسية، ولا سيما في ظل الحرب الروسية الأوكرانية.

من التداولية إلى سياسة القوة

لطالما عُرف هابرماس كمدافع عن نظام سياسي سلمي قائم على الديمقراطية التداولية واحتواء العنف عبر القانون الدولي. لكن مطالبه الحالية بتعزيز القوة العسكرية لأوروبا دون التركيز الموازي على آليات الدولة القانونية والسياسة السلمية تمثل تحولًا كبيرًا. فحل النزاعات لم يعد يُرى في الفضاء التداولي، بل في إطار إسقاط القوة الاستراتيجية. يطرح هذا التساؤل: هل أصبح العنف وسيلة مشروعة عندما تفشل العمليات التداولية؟

التناقضات المعيارية والواقع السياسي

قد يُعتَذر لهابرماس بأنه يستجيب لتحديات الواقع، خاصة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا. لكن يبقى السؤال: كيف يمكن لهذا التوجه العسكري أن يتماشى مع رؤيته الكونية لنظام قانوني عالمي؟ غياب موازاة واضحة بين التسلح والدبلوماسية يعيدنا إلى منطق القوة الذي طالما انتقده هابرماس نفسه.

التناقضات الاستراتيجية في الموقف من الحرب

تبرز إشكالية إضافية في دفاع هابرماس الضمني عن الحرب الأوكرانية. الاعتماد على الخيار العسكري وحده يتجاهل معضلات الحروب المعاصرة، مثل خطر الركود أو الاستنزاف. تصريحات فاليري زالوجني تؤكد أن روسيا لا تزال تملك القدرة على الهجوم. وهذا يثير تساؤلات حول غياب تصور معياري لخروج سلمي من النزاع.

بين الاستقلال الأوروبي والتبعية الأطلسية

دعوة هابرماس إلى سيادة دفاعية أوروبية تستدعي سؤالًا جوهريًا: هل يمكن لأوروبا أن تصبح فاعلًا مستقلًا أم إنها تبقى تابعة للناتو؟ في ظل استمرار الاعتماد على القدرات الأمريكية في مجالات حيوية، يبقى مشروع الدفاع الأوروبي عرضة للتبعية. فمن دون تكامل سياسي أعمق، تبقى هذه المشاريع مجازفة غير محسوبة.

انزياح عن مشروع العقلانية السياسية

تمثل دعوة يورغن هابرماس إلى تعزيز القدرات العسكرية الأوروبية انعطافًا إشكاليًا عن مشروعه الفكري الأصلي، لا سيما ما يتعلق بنظرية العقلانية التواصلية والسياسة التداولية. فبينما قام مشروعه الفلسفي على تصور السياسة بوصفها ممارسة عقلانية قائمة على الحوار العمومي، والتوافق المعياري، يبدو أن موقفه الجديد يفتقر إلى الربط المبدئي بين القوة والعقل السياسي، وبين الردع ومشروعية الفعل.

إن الاستجابة للتهديدات الجيوسياسية، وإن كانت ضرورية، لا تبرر تقويض البنية المعيارية التي أسّس عليها هابرماس مفهومه للشرعية الديمقراطية. فالخطر الخارجي، بما في ذلك العدوان الروسي، لا يُعالج فقط من خلال منطق التسلح، بل يستدعي رؤية أمنية شاملة، تؤسس على التكامل بين الردع المشروع والدبلوماسية متعددة الأطراف، إضافة إلى الوقاية الاستباقية من النزاعات.

بهذا المعنى، فإن القطيعة بين دعوته إلى التسلح وبين مفهوم “السياسة العقلانية” تمثل انزياحًا عن طموحه الأصلي بجعل العقل هو مرجعية القرار السياسي. ما يتطلبه السياق الأوروبي الراهن ليس مجرد امتلاك أدوات القوة، بل هندسة أمنية قائمة على الشرعية التداولية، والانسجام بين الوسائل العسكرية والغايات السلمية. ففقط عبر هذا التكامل، يمكن الحفاظ على جوهر المشروع الهبرماسي، وتجنيب أوروبا الانزلاق نحو منطق استراتيجي محض يُفرغ السياسة من بعدها القيمي.

*باحث في جامعة أوسنابروك الألمانية

المصدر: هسبريس

شاركها.