فاطمة غزالي

فاطمة غزالي

بعيداً عن جدل الشرعية والسيادة، فإن إعلان تحالف تأسيس عن تشكيل حكومته يُعد خطوة جريئة. فلأول مرة يجري التدوين في تاريخ السودان الحديث أن تنظيماً سياسياً وعسكرياً شكل حكومة مقرها خارج حدود المركز(الخرطوم)، وسمى حكام اللأقاليم الثمانية في إشارة إلى وحدة السودان. وهذا ينفي النوايا الانفصالية المزعومة التي تشاع ضد القائمين على أمرها.
حكومة تأسيس أصبحت أمراً واقعاً والوهم الرغائبي للمعارضين لها لا يلغي وجودها ولا يقلل من أهميتها كعامل مؤثر في دالة المعادلة السياسية السودانية. واختيار مدينة نيالا مقراً للحكومة ليس حدثاً عابراً بل يشكل نقطة التحول الكبير في مسار التغيير تطلعاً للوصول إلى نظام حكم يرضي طموحات كل المكونات السودانية.
تأسيس وأرض الصومال
حكومة تأسيس تستطيع أن تخلق وضعاً يشبه حكومة أرض الصومال في الملامح العامة مع الاختلاف في الجوهر. فأرض الصومال هي مساحة اقتطعت من الصومال الكبير وأعلنت العشائر استقلالها بعد الحرب الأهلية ، وأقامت عليها حكومة عشائرية ، بينما تستند حكومة تأسيس على وحدة السودان، وعليه فقد سمت حكاماً لبعض الإقاليم التي يسيطر عليها الجيش تمسكاً بمبدأ السودان الواحد؛ من الجنينة إلى بورتسودان من حلفا إلى الجنوب الجديد.
تستطيع حكومة تأسيس أن تثبت وجودها ككيان وأن تقدم ما قدمته أرض الصومال لمواطنيها من خدمات مثل الحماية، تيسير سبل الحياة، توفير الأوراق الثبوتية، جوازات السفر والانتخابات.
بالرغم من مخاوف المجتمع الدولي من أن الاعترف بحكومة أرض الصومال يؤدي إلى عدم الاستقرار في القرن الأفريقي، إلا أن هناك علاقات دبلوماسية غير رسمية بين أرض الصومال وبعض الدول مما يشير إلى الاعتراف الضمني باستقلالها، خاصة أن إقليم أرض الصومال الشمالي أستطاع أن يمنع انتقال فوضى الحرب الأهلية إلى أراضيها.
حكومة تأسيس تملك الفرصة لمواجهة التحديات السيادة والشرعية المتعلقة بالاعتراف الدولي. وفي ظل تعقيدات المشهد السياسي من الطبيعي أن يُعلن الاتحاد الأفريقي بروتوكولياً عدم الاعتراف بحكومة تأسيس في هذه المرحلة، لأن الاعتراف الدولي مترابط سياسياً وقانونياً. فالمواثيق الدولية والكاريزما السياسية تلعبان دوراً محورياً في التعاطي مع أطراف الصراع في السودان وفي أي منطقة من العالم، لأن عالم اليوم قائم على منطق القوة التي تتحرك بين ثغرات القوانين الدولية. فحالة الانقسام والسيادة المتنازع عليها بين حكومتي “بورتسودان ونيالا ” تضع قيوداً على الاعتراف بالحكومة الجديدة علناً. بيد أن هناك دولاً أفريقية وغير أفريقية تتواصل مع تحالف تأسيس لأنها على قناعة بأن عدم الاعتراف الدولي بها لا يعني عدم وجودها على أرض الواقع، مما يمهد مستقبلاً للاعتراف بها، ولو ضميناً، في حال توقف دوران عجلة السلام.
الاعتراف الضمني أو الصريح ستفرضه مصالح الدول التجارية والأمنية، كما هو الحال في أرض الصومال، التي تسعى أمريكا للاعتراف بها من أجل المصالح التجارية في البحر الأحمر في ظل الصراع المحتدم حوله.
وليس ببعيد أن تلجأ بعض دول الجوار خاصة التي تعتمد على موارد غرب السودان من المحاصيل النقدية والثرورة الحيوانية والمعادن إلى الاعتراف لأن المصالح ستجبرها على التعامل مع حكومة تأسيس والاعتراف بها في ظل سيطرة تأسيس على مناطق كبيرة في إقليمي كردفان ودارفور.
من يملك السيادة والشرعيةالسيادة تعني السلطة العليا أو المطلقة للدولة وأن الدولة قادرة على اتخاذ القرارات وتنفيذها دون قيود، واستقلال الدولة عن أي تدخل خارجي في شؤونها الداخلية والخارجية، وأن السلطة الحاكمة يجب أن تكون على أسس وقوانيين، وأن السلطة العليا للشعب وفقاً للشرعية الشعبية… بعد إنقلاب 25 أكتوبر 2021م وحرب 15 أبريل 2023م نجد أن السلطة المطلقة للدولة في يد الحركة الإسلامية العالمية التي تحرك الشأن السوداني عبر الحركة الإسلامية السودانية.، ليس هذا فحسب، بل إن أبواب السودان مفتوحة للتدخلات الدولية التي خلقت الصراع داخل اللجنة الرباعية التي تمثل الوساطة من أجل السلام وتضم الولايات المتحدة الأمريكية ومصر والعربية السعودية ودولة الإمارت العربية المتحدة. قطعاً لا سيادة في ظل غياب الأسس والقوانين التي حل محلها العنف وضاعت الشرعية الشعبية التي فرضتها ثورة ديسمبر المجيدة.
وبالتالي يصبح الحديث عن السيادة الآن مجرد ترف لأنه ببساطة يمكن أن تُفرض على السودان قرارات دولية كما فرضت عقوبات بشأن الحرب وتداعياتها التي أودت بأرواح الآلاف وأجبرت الملايين على النزوح واللجوء وأصبح أكثر من 25 مليون مهددين بالجماعة.
أما فيما يتعلق بالشرعية الشعبية فإن الشعوب وهي التي تمنح الحكومات الشرعية الحقيقة، ولسان حال المشهد السياسي السوداني يقول إن الحكومتين( بورتسودان ونيالا) أمام تحدي الشرعية الشعبية. وللأسف لا زالت حكومة بورتسودان غارقة في وهم الشرعية وتتناسى أن المجتمع الدولي يتعامل معها باعتبار أنها حكومة الأمر الواقع الإنقلابية التي لا تملك الشرعية الشعبية منذ 25 أكتوبر2021م. وبفقدان هذه الشرعية تم تجميد عضوية السودان في الاتحاد الأفريقي، وحينما إندلعت الحرب أتت مبادرات إنهاء الحرب ومساعي السلام. وهي التي منحت الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان قائد الجيش فرصة المشاركة في المحافل الدولية ودفعت المبعوث الأمريكي السابق للسودان توم بيرييلو مخاطبة البرهان باعتباره رئيس لمجلس السيادة تلطفاً وأملاً في أن الأخير سيجنح إلى السلام. و النتيجة أن البرهان أخذ ما يريده من المبعوث الأمريكي وولى مدبراً من المفاوضات مما أطال عمر الحرب وزاد من معاناة المواطنين. ذهب البرهان إلى أبعد من ذلك وشكل حكومة صورية على رأسها رئيس الوزراء المدني الدكتور كامل إدريس حتى يضمن التواصل مع المجتمع الدولي وبقائه على كرسي السلطة التي تواجه تحديات الصراع بينه وحلفاءه في رحلة البحث عن الانتصار والشرعية .
ارتكب البرهان أخطاء كثيرة منها تنفيذه لتعليمات قيادات الحركة الإسلامية التي ستضعه في مواجهة مع المجتمع الدولي خاصة فيما يتعلق بالعلاقات مع إيران، و استغلال الشباب وتجيش المواطنين لصالح الاستمرار في الحرب باسم معركة الكرامة. ممارسة التمييز على أساس جهوي وعرقي وسياسي فكانت الاعتقالات السياسية لمنسوبي القوى السياسية والمدنية والقتل على أساس الهوية، و قانون الوجوه الغريبة وحرمان البعض من استخراج الأوراق الثبوتية وجوارزات السفر خير دليل على التمييز بين المواطنين.
حكومة تأسيس تحت مجهر الصدقيةحكومة السلام التي شكلها تحالف تأسيس ستواجه أيضًا تحديات تتعلق بمدى قدرتها على كسب الشرعية الشعبية في مناطقها وإقناع الأسرة الدولية بأنها تستطيع فعل ما لم تستطيع فعله حكومة بورتسودان المقيدة بهيمنة الحركة الإسلامية المسيطرة على صناعة واتخاذ القرار في حكومة الأمر الواقع، خاصة فيما يتعلق بحماية المواطنيين. حكومة تحالف تأسيس أمام خيارين: أما تنجح أو تنجح بأن تثبت وجودها محلياً وتكسب الشرعية الشعبية خاصة في مناطق سيطرتها وإقناع الآخرين بقوتها وعدالتها.
الفشل لا مكانة له في حكومة تأسيس لأنه سيكتب شهادة وفاة المشروع السياسي المسمى “السودان الجديد” الذي جذب العديد من المثقفين والمستنرين والمؤمنين بضرورة الدولة العلمانية والديمقراطية اللا مركزية من كل مناطق السودان.
الفشل يعني إطفاء شمعة الأمل للهامش السوداني وتمزيق آخر الفرص للمهمشين وكل الذين عانوا من سياسات الحكومات المركزية في الوسط والشمال اللذين لم يشفع لهما القرب من المركز من التهميش النسبي.
لا شك أن حكومة تأسيس وضُعت منذ تشكليها تحت المجهر لاختبار صدقية مبادئها الدستورية وفوق الدستورية التي تواثقت عليها قيادات التحالف. فتقديم نموذج حكومة حقيقة تخدم المواطن بدءً من الحق في الحياة وفقاً للمادة 6 من العهد الدولي الأول الذي ينص على أن لكل إنسان الحق في العيش وعدم التعرض للقتل من قبل إنسان آخر.
لكل شخص الحق في الحياة والحرية والأمان، وهذا الحق يشكل الأولوية الكبري في حالتي الحرب والسلم.
فإذا استطاعت حكومة السلام توفير الحماية للمواطنيين وتحقيق الأمن لا شك في أنها ستكسب تعاطف سكان المناطق المتأثرة بالحروب قبل حرب 15 أبريل 2023 م في كل من دارفور، كردفان، وجبال النوبة والنيل الأزرق ولن ينحصر وجودها بين الذين خرجوا مؤيدين لها فحسب بل ستكسب مناصرين جدد لمشروع السودان الجديد وهو المطلب القديم المتجدد بسبب استمرارية عقلية المركز الشمولية التي وئدت مطلب الهامش منذ 1956م وكان الثمن انفصال الجنوب الجزء العزيز من الوطن .
القائمين على أمر حكومة تحالف تأسيس لديهم فرصة كبيرة في جذب تعاطف الأسرة الدولية خاصة وأنهم خارج دائرة مغامرات البرهان مع التنظيم العالمي للحركة الإسلامية ولا يغردون في سرب الدولة الدينية.
فمغامرات البرهان خلقت مخاوف كبيرة من وجوده على السلطة وهذه المخاوف صرح بها الغرب ومحيط السودان الإقيلمي.
كما يبدو أن مصر أكثر قلقاً من مغامراته إلى درجة ارتفعت فيها أصوات بعض قادة الرأي من المصريين معبرة عن خطورة تمدد نفوذ الإسلاميين داخل حكومة بورتسودان.
العالم اليوم قائم على منطق القوة فإذا استطعت حكومة تأسيس أن تفرض قوتها بالشرعية الشعبية وبقدرتها وتوفير الخدمات والحماية والمحاسبة والحرية واقنعت الأسرة الدولية بأنها على قدر المسؤولية بشأن تنفيذ ماورد في دستورها ستجد من يتعامل معها.
تشكيل حكومة تأسيس أو حكومة السلام لا يعني إغلاق نوافذ السلام مع الجيش ولا يشير إلى توقف سيناريوهات المشهد السياسي بسيطرة كل طرف من طرفي الحرب على المناطق التي يفرض فيها وجوده العسكري والسياسي والسعى إلى توسيع النفوذ بالمعارك الميدانية.
فقطعاً ستكون هناك سيناريوهات مقبلة قد تفرضها شرعية السلام على جميع الأطراف والأمل في السلام لابد أن يكون متوهجاً وعلى الوسطاء يقتنعوا بأن بث الروح مبادرة السلام مرتبط بالتنازل عن أجندتهم الخاصة وإخراج الإسلاميين من المعادلة السياسية. فوجودهم دائماً يغذي حالة اللا حلول للأزمة السودانية والشاهد على ذلك استمرار حربهم التي أدت إلى وجود حكومتين في عامها الثالث. فكيف يكون حال السودان إذا استمرت إلى أكثر من ذلك؟!

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.