
بثينة تروس
في حربنا المنسية، الضحايا هم أبناء شعب مغلوب على أمره، شباب دون تعليم او تربية، مراهقين دون وعي يحملون أخطر أنواع الأسلحة، ينفعلون برؤية الدماء، يساقون إلى حتفهم كالقطيع، بخطب جنرالات جوفاء تدفع بهم إلى الجبهات تحت لافتات منمقة مثل الجهاد في سبيل الوطن، والاستنفار، حرب الكرامة، ومحاربة التهميش، دولة 56 والديمقراطية وجهاد من أجل العلمانية! كل طرف في الجيش والدعم السريع يكبّر ويهلل في وجه الآخر، وكل يحسب أن قتلاه في الجنة، وصرعى الطرف الثاني في نار جهنم خالدين فيها. ثم يظهر شاب، أحد تلاميذ الكيزان، متبجحاً بذنبه واخوته في فض اعتصام القيادة العامة، مبهورًا بخطاب الجهاد كما بشّر به علي عثمان محمد طه، الذي قال بلسان (أنا ربكم الأعلى) لدينا كتائب ظل وتعلمونها جيداً. فجأة تتناقل الاسافير خبر موت هذا الشاب، فتشتعل الشماتة بين الطرفين، وتستعر لغة الإقصاء والتكفير. لكن السؤال الحقيقي لم يُطرح بينهم بعد، أين أبناء منظري المشروع الإسلامي؟ وأين شبابهم؟
الذين تاجروا بالدين والسياسة و(الكرامة) من شيوخ الحركة الإسلامية، الذين يديرون الحرب كأنها لعبة شطرنج، بعد ان تحولت إلى مشاريع ربحية، ترتفع فيها الأرصدة وتكبر الاستثمارات، وبينما يرسل أبناء البسطاء إلى حروب الوكالة. أبناؤهم يدرسون في أرقى جامعات العالم، يسكنون الفلل المكيفة، وينعمون بحياة آمنة. أما أبناء الغبش، فهم وقود المعارك يموتون بلا أسماء. ويظلّ الحال الموجع، مع كل شاب يسقط في هذه الحرب، أن القتلى ليسوا من أبناء الجنرالات، لا البرهان، ولا العطا، ولا كباشي، ولا عقار، ولا مناوي، ولا حميدتي، ولا حتى برمة ناصر! ولا هم من أحفاد الساسة الذين أخرجوا أبناءهم بسلام إلى عواصم الدنيا. فميادين الموت والبغضاء والعنصرية مكتظّة بأبناء الغبش، أولاد الهامش، من أقاصي البلاد إلى حواضرها، أولئك الذين دفعتهم الحاجة قبل العقيدة، واليأس قبل الحماسة إلى ساحات القتال. من تركوا مقاعد الدراسة، وأكفّ أمهاتهم المتضرعة، ومضوا بلا رجعة. هم أبناء العامل البسيط، وست الشاي، والموظف المعدم، والتاجر المفلس. هم من لا يملكون وساطة تخرج أبناءهم من التجنيد، ولا جواز سفر يحملهم بعيدًا عن نيران القصف، ويسمون بوجوه غريبة. وتبكيهم أمهاتهم في اللجوء.
وليدات الغبش في السودان هم حصاد مشروع الجهاد الاستثماري للحركة الاسلامية. مشروع، تمكّن فيه الكيزان من بسط النفوذ حتى طال جنرالات الجيش. ثم صنعوا الميليشيات، فكان الدعم السريع، وكان حميدتي أبرعهم، (الحوار الغلب شيخو) بعد أن اكتشف حميدتي أن الكيزان مجرد مافيا ذهب وثروات وشهوات. فقالها صراحة (السبب كله الكرسي نمرة اتنين القاعد أنا فيهو دا… لأنو دايرين محلي في الخلا أقاتل ناس مناوي وجبريل لكن نحن تاني ما بننغشي، الشلاقي ما خلّ ليهو عميان).. وطالبهم بقسمة الثروة والسلطة. ثم دخلت النخب في حكومة تأسيس على الخط، بطلاء الديمقراطية، ثم العلمانية، مأخوذين بنوايا حسنة، وبمبادرات للدعم السريع في الجلوس للتفاوض. في مقابل، تعنت واضح من جنرالات الجيش المسلوبين كليًا للإرادة الكيزانية. نعم، السلام ذاك الهدف المطلوب، لكن المشروع الكيزاني المستتر في باطن قادة الدعم السريع لا يؤمن بحقيقة العدالة والمحاسبة علي جرائم الحرب. وإن تغيرت وجوه اللاعبين. فلا يزال حميدتي يقاتل مناوي وجبريل وعقار، لم نبرح مكاننا، الموتى هم أولاد الغبش والمساكين. الحصاد هو ذاته مزيد من القبور، أما في السلطة؟ نفس الزول، بل المرشح القادم أيضاً نفس الزول.
ماذا جنى الوطن من الجهاد الكيزاني؟ في سيرة الأستاذ محمود محمد طه، الرجل الذي عرف بالاتساق المذهل في محاربته باطل الاخوان المسلمين، بان السبيل الوحيد لذلك في الدعوة للسلام، وبسط الامن، والقانون الذي يتيح المنابر الحرة التي بدورها تعين على نشر الوعي بين أبناء الشعب، لكشف باطل مشروع الحركة الاسلامية! ذكر الدكتور منصور خالد في كلمة كتبها في يناير عام 1985 ونشرت في جريدة السياسة الكويتية قائلا (ويا ليت حاكم السودان كان يملك الحس من المسئولية الوطنية التي تجعله يقول ما كان يقوله شهيد الحرية الأستاذ محمود: “تقول الحكومة راح منا عشرون وقضينا علي ستمائة من المتمردين” أما نحن فنقول “لقد راح ستمائة وعشرون مواطناً سودانياً).
وأنفصل الجنوب ذبح الكيزان ثوراً أسودَ احتفالاً بأن السواد والكنيسة والكجور قد خرجوا من جسد الدولة العروبية النقية. وخسر الوطن نصفه، ولم يتبقَ إلا قصص (غزالة حضرت للمجاهدين وذبحت نفسها لتطعمهم)، وزيجات قادة الجيش من نساء الشهداء. كم من جيل بعد سيُضحى به في محرقة المشاريع الوهمية؟ وكم من وليد أغبش سيساق جهلاً نحو القتال! الامر ليس في انتصار طرف على آخر، بل في وقف نزيف الدم، وإعادة تعريف قيمة الإنسان بعيدًا عن الجهة والمعتقد والانتماء. فلتطو صفحة الحروب، ويُفتح باب الوطن أمام أبنائه جميعًا، لا باعتبارهم وقودًا للقتال، بل بناته الحقيقيين في السلام، والعدالة، والكرامة.
المصدر: صحيفة التغيير