قدّم الملك محمد السادس، في خطاب الذكرى السادسة والعشرين لعيد العرش، وثيقة سياسية متكاملة تتجاوز الطابع الاحتفالي التقليدي، لتشكل مرجعية استراتيجية ترسم ملامح المرحلة المقبلة، داخليا وخارجيا، في ظل تحولات إقليمية ودولية معقدة.
الخطاب جاء محملا بحصيلة عقدين من التحولات الاقتصادية والاجتماعية، وفتح آفاقا جديدة للسياسات العمومية، مؤكدا أن ما تحقق لم يكن وليد المصادفة، بل نتاج خيارات سياسية واعية ارتكزت على الاستثمار العمومي، والشراكة مع القطاع الخاص، واستقطاب الاستثمارات الكبرى في قطاعات استراتيجية مثل السيارات والطيران والطاقات المتجددة.
بحسب الأستاذ الجامعي والمحلل الاقتصادي بدر الزاهر الأزرق، فإن الخطاب الملكي جاء ليؤكد أن عيد العرش ليس مجرد مناسبة احتفالية، بل لحظة سياسية محورية لتقييم منجزات الماضي وتوجيه مسار المستقبل. واعتبر الأزرق أن الخطاب أبرز التحول النوعي الذي شهده المغرب، من اقتصاد هش يعتمد على الفلاحة والخدمات، إلى نموذج صناعي حديث يراهن على التكنولوجيا المتقدمة والطاقات النظيفة وسلاسل الإنتاج المندمجة.
ويرى المتحدث أن هذا التحول يعكس خيارا سياديا تم تنزيله تدريجيا عبر إصلاحات هيكلية، وتحديث البنيات التحتية، وتحسين مناخ الأعمال، وهو ما أسهم في جذب كبريات الشركات العالمية وإدماج المغرب في سلاسل القيمة الدولية.
الخطاب لم يقتصر على البعد الاقتصادي، بل توقف أيضا عند الورش الاستراتيجي المتعلق بالحماية الاجتماعية، الذي وصفه الملك بأنه مدخل أساسي لإعادة تعريف دور الدولة. وأوضح بدر الزاهر الأزرق، أن المشروع يتجاوز التغطية الصحية ليؤسس لمنظومة اجتماعية مندمجة تضمن الحماية من الفقر والهشاشة، وتفتح آفاق الارتقاء الاجتماعي.
وأشار الملك إلى تراجع نسبة الفقر متعدد الأبعاد من 11 في المئة سنة 2014 إلى 6 في المئة سنة 2025، وهو ما اعتبره الأستاذ الأزرق دليلا ملموسا على فعالية السياسات الاجتماعية خلال السنوات الأخيرة.
رغم الإشادة بالمنجزات، لم يخلُ الخطاب من لهجة نقدية واضحة لما سماه “مغرب السرعتين”، في إشارة إلى استمرار الفوارق بين المدن الكبرى الدينامية والمناطق المهمشة. واعتبر الأزرق أن هذا التشخيص يعكس وعيا ملكيا بضرورة الإنصاف المجالي، وتوجيه الاستثمارات نحو الأقاليم الأقل حظا، في إطار تفعيل الجهوية المتقدمة.
كما تطرق الخطاب إلى محدودية أداء بعض النخب المحلية والأحزاب السياسية في مواكبة المشاريع الملكية، وهو ما يشكل حسب المتخصص أحد التحديات البنيوية التي تعيق التنزيل الفعلي للإصلاحات.
في الشق الدبلوماسي، جدد الخطاب التزام المغرب بثوابت سياسته الخارجية، القائمة على حسن الجوار والانفتاح والحوار، خاصة مع الجارة الجزائر. وأشار الأزرق إلى أن دعوة الملك لفتح قنوات تواصل مباشر وصريح مع الجزائر، للمرة الخامسة، تجسد تمسكا بمنطق استراتيجي يفضل التهدئة على التصعيد.
كما شدد الخطاب على التزام المغرب بالشراكات الدولية الكبرى، وحرصه على دعم مبادرة الحكم الذاتي كحل واقعي وذي مصداقية لنزاع الصحراء المغربية، في إطار احترام السيادة الوطنية.
في ختام تحليله، اعتبر الأستاذ بدر الزاهر الأزرق أن خطاب العرش لسنة 2025 يشكل وثيقة سياسية جامعة، تمزج بين تقييم المنجزات ونقد الاختلالات واقتراح الحلول. وهو دعوة صريحة لكل الفاعلين المؤسساتيين والسياسيين والاجتماعيين للانخراط الجاد في تنفيذ رؤية ملكية تقوم على الإنصاف الترابي، والعدالة الاجتماعية، والانفتاح الدبلوماسي، بهدف تموقع المغرب كقوة إقليمية صاعدة في عالم متغير.
المصدر: العمق المغربي