تصعيد النزاع الحدودي مع إثيوبيا في منطقة الفشقة
تناولنا في الحلقة السابقة موضوع المناورات العسكرية المشتركة بين الجيشين السوداني والمصري، التي أُجريت على الأراضي السودانية، ودلالاتها ومغزاها من حيث التوقيت، وما إذا كانت تخدم مصالح السودان أم مصالح مصر. وفي هذه الحلقة، نسلّط الضوء على خطوة الجيش السوداني بحسم قضية أراضي الفشقة السودانية المحتلة بواسطة إثيوبيا عسكرياً.
معلوم أن منطقة الفشقة السودانية، الممتدة على مساحة تُقدَّر بـ5700 كيلومتر مربع على الحدود مع إثيوبيا، ظلّت مسرحاً لنزاعات متقطعة بين المزارعين من البلدين، إلى جانب أنشطة عصابات متفلتة. وقد تعاملت معها الحكومات المتعاقبة في البلدين برويّة ومن دون تصعيد. ولكن، في أعقاب محاولة اغتيال الرئيس المصري في أديس أبابا عام 1995، بدأت القوات الإثيوبية تتوغّل في عمق الأراضي السودانية، قبل أن تنسحب جزئياً، مع بقائها في أجزاء من الفشقة منذ عام 1998.
ورغم استئناف محادثات ترسيم الحدود، التي أسفرت عام 2008 عن اتفاق ضمني اعترفت فيه إثيوبيا بالحدود القانونية، وسمح السودان للمزارعين الإثيوبيين بمواصلة أنشطتهم في المنطقة، إلا أن أجزاءً من الفشقة ظلّت تحت الاحتلال الإثيوبي، لتبقى المسألة عالقة.
ومع اندلاع الحرب بين الحكومة الإثيوبية وجبهة تحرير شعب تغراي في 4 نوفمبر 2020، تحرّك الجيش السوداني في 9 نوفمبر، أي بعد خمسة أيام فقط، لاستعادة الأراضي السودانية المتنازع عليها، ما أدى إلى تصعيد التوتر بين البلدين، وزيادة وتيرة الاشتباكات الحدودية. وتمكّن الجيش السوداني من بسط سيطرته على أجزاء واسعة من المنطقة، والدخول إلى مناطق كانت تسيطر عليها ما تُعرف بـ”مليشيات الشفتة” الإثيوبية.
اتهمت إثيوبيا مصر بالوقوف وراء التصعيد، عبر تحريض المكوّن العسكري في السلطة الإنتقالية على خوض معركة ضدها، في توقيت كانت فيه منشغلة بحربها الداخلية في إقليم تغراي.
لا جدال في سودانية أراضي الفشقة التي تحتلها إثيوبيا، وضرورة أن تعود إلى السيادة السودانية، تماماً كما هو الحال مع أراضي حلايب وشلاتين وأبورماد التي تحتلها مصر. لكن، تجاوز الوسائل الثنائية المتاحة لتسوية النزاع، والتوجّه مباشرة نحو الحسم العسكري، أثار تساؤلات جوهرية حول الدوافع والمبررات، لا سيما أن هذا التحرّك العسكري جاء متزامناً مع فشل المحادثات الثلاثية حول ملء وتشغيل سدّ النهضة، ووسط مناخ التهديدات المصرية لإثيوبيا، والمناورات العسكرية المشتركة بين الجيشين السوداني والمصري. إلى جانب مسألة الأولويات الملحّة والتحديات التي تواجه السلطة الانتقالية، وبخاصة المكوّن العسكري، والتي على رأسها قضايا الترتيبات الأمنية الخاصة باتفاق سلام جوبا، والانفلات الأمني في العاصمة وعدد من المدن، وأزمات السلع والخدمات، وتصاعد النزاعات والحروب القبلية في أجزاء واسعة من البلاد.
الأمر الذي أثار التساؤل: لماذا وكيف صعد ملف تحرير أراضي الفشقة إلى أعلى سلّم أولويات المكوّن العسكري، في الوقت الذي تطالب فيه الأزمات والتحديات الداخلية بتأجيل تسويته إلى حين أنسب؟ خاصة أن موقف إثيوبيا تجاه الفشقة، رغم وقوع الاحتلال، لم يكن مطابقاً تماماً للموقف المصري من حلايب، لا من حيث الخطاب القانوني، ولا من حيث أسلوب إدارة النزاع. فإثيوبيا لم تعلن رسمياً أن الفشقة أرض إثيوبية، كما لم ترفض تسوية النزاع حولها عبر الحوار الثنائي، بعكس مصر التي تعلن أن حلايب أرض مصرية بالكامل، وترفض التفاوض الثنائي بشأنها، وتتبع سياسة “فرض الأمر الواقع”. ومع ذلك، لم يُسمع أبداً أي صوت للجيش فيما يخصّ احتلال مصر لمثلث حلايب.
لذلك، فإن المعطيات أعلاه قادت إلى طرح تساؤلات حول الدوافع الحقيقية للتصعيد العسكري مع إثيوبيا، ودور مصر في ذلك التصعيد، خاصة وهي لا تُخفي قلقها تجاه سدّ النهضة، وتُعد المستفيد الأبرز من إنهاك إثيوبيا في نزاع مع السودان، يمكن أن يُضعف موقفها التفاوضي، ويُعطّل استكمال السد أو يُفرغه من محتواه الاستراتيجي.
أما فيما يخصّ السودان، فإن دخوله في حرب ضد إثيوبيا يتيح لمصر أخذ كامل حصته، المجحفة أصلاً، من مياه النيل.
وما يعزّز هذه الفرضية، هو أن مصر كانت الدولة الوحيدة التي سارعت إلى دعم تحرك الجيش السوداني لتحرير الفشقة، وكأنها لا تحتل أراضي سودانية في مثلث حلايب. ومن جهة أخرى، كشفت الخبيرة بمركز الأهرام للدراسات، د. أماني الطويل، في ندوة نُظّمت في 10 سبتمبر 2022 بواسطة المنبر الثقافي بجنوب كاليفورنيا، عن تقديم سلاح المهندسين المصري دعماً لوجستياً للجيش السوداني، تمثّل في جسور مركّبة مكّنته من عبور المجاري المائية الكثيفة في منطقة الفشقة واستعادة السيطرة عليها. وقد شارك في هذه الندوة المفكر والخبير السوداني، د. النور حمد.
وإلى جانب ما كشفته د. الطويل حول الدعم المصري للجيش السوداني، تبرز من جانب آخر مفارقة تستوجب التساؤل: لماذا لا يمتلك الجيش السوداني الجاهزية اللوجستية من الكباري المركّبة، رغم أنه لا تنقصه الإمكانيات المادية، بحكم سيطرته على نحو 80٪ من ميزانية الدولة، واستثماراته الكبيرة في مجالات المصارف والزراعة والجلود والمواشي والصمغ العربي والسمسم وإنتاج الذهب، وغير ذلك، علاوة على مجالات الاتصالات والإنشاءات والطيران (المدني)؟ خاصة على ضوء أهمية مثل هذه الكباري لبلد تجري في أراضيه مئات الأنهار والخيران والمجاري المائية المتعددة، التي عددها شاعرنا القامة الشريف زين العابدين الهندي في ملحمته التي صدح بها فناننا الفخيم عبد الكريم الكابلي، عليهما رحمات الله تترى:
“الأزرق البي عرقو هدّ القيف
والأبيض الماش منطرح ما بقيف
ورهد المفازة، والاتبراوي، والدندر، والباسلام، والقاش،
وبحر الجبل، وسيتت، وبحر الغزال، وخور أبحبل، وألف خور في الوادي وألفين رافد، والبلدات، وسمسم، وأم صقور، وسهل قبوب ود زايد،
والمطر البكب أربع شهور ويدارد…”
أليست مفارقة تستعصي على الفهم أن يتم جلب الكباري المركّبة من بلد لا يجري في أراضيه أي مجرى مائي، سوى نهر النيل؟!
خلاصة القول هي أنّ ما نشهده من تفريط متكرر في المصالح الوطنية لا يمكن فصله عن واقع ارتهان القرارات السيادية والسياسية للمصالح الحزبية والشخصية الضيّقة، سواء من جانب القيادات العسكرية أو المدنية. كما لا يمكن فصله عن غياب المساءلة والشفافية، والتشوّهات العميقة في بنية الدولة السودانية.
ولن تخرج بلادنا من نفق الاضطراب إلا بإعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس مهنية وقومية، وإصلاح المؤسسة العسكرية، لتعود إلى أداء واجباتها الأصيلة في حماية المواطن والوطن، لا التورّط في صراعات سياسية أو إقليمية تُستخدم فيها كأداة بالوكالة، ويدفع ثمنها الوطن.
المصدر: صحيفة الراكوبة