منذ توقيع اتفاقيات أبراهام بين إسرائيل وكلّ من الإمارات والبحرين عام 2020، لم يتوقف الحديث عن احتمال انضمام دول خليجية أخرى إلى مسار التطبيع، تمهيدا لتوسيع نطاق الاتفاقات في المنطقة.
يثير هذا الملف تساؤلات حول كيفية تعاطي دول مثل السعودية وقطر والكويت وسلطنة عمان مع فكرة إبرام اتفاق سلام مع إسرائيل، وسط تعقيدات الداخل السياسي وتشابك المعادلات الإقليمية.
وبينما يرى مراقبون أن “التطبيع” فرصة لبناء شراكات استراتيجية وتعزيز التعاون في مجالات متعددة، لا تزال مواقف معظم دول الخليج محكومة بحسابات دقيقة تمسّ أمنها، واستقرارها، وتحالفاتها الإقليمية والدولية.
التحديات الداخلية: الرأي العام الشعبي والعربي أمام التطبيع
في سياق النقاش حول تحديات التطبيع مع إسرائيل في دول الخليج، يسلط الصحفي الكويتي، جاسم الجريد، الضوء على الدور الحاسم الذي تلعبه ممانعة الشارع الخليجي والعربي، والتي تشكل، في رأيه، عقبة كبيرة أمام صانعي القرار.
يقول الجريد إن “موقف الإمارات كان استثنائيا في هذا الإطار حيث دفعت الخطوات الجريئة التي اتخذتها إلى تشجيع البحرين والمغرب على السير في نفس الاتجاه، ما سمح لهذه الدول بالتقدم بخطوات متقدمة متجاوزة دولا أكثر تحفظا.”
ويُرجع الجريد استمرار الرفض الشعبي إلى “عوامل تاريخية ودينية وسياسية متشابكة والتي يعززها الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، إضافة إلى الخطاب الديني والبيانات الدبلوماسية ذات الطابع الاستهلاكي التي لا تحقق تقدما ملموسا، وهذا كله يُشكل تحديا حقيقيا للشرعية، إذ يخشى صانعو القرار من استياء شعبي قد يزعزع الاستقرار أو يضعف شرعيتهم، خصوصا في الأنظمة التي تسعى لتحقيق توازن دقيق بين مصالحها وحساسيات شعوبها.”
ويضيف الجريد أن التوازن بين المصالح الاستراتيجية وضغوط الداخل ممكن “عبر تحديث العقود الاجتماعية والدساتير بحيث تُبعد الشريعة الإسلامية عن كونها المرجعية الأساسية في اتخاذ القرارات السياسية، مع الإبقاء على تطبيقها فقط في قوانين الأحوال الشخصية للمسلمين”.
ويقترح اعتماد نهج تدريجي، بطيء، في خطوات التطبيع، مع التركيز على مجالات تحقق “منافع اقتصادية وأمنية واضحة مثل التكنولوجيا والأمن السيبراني والاستثمار، مع فصل الجوانب التقنية عن القضايا السياسية الحساسة”.
ويشير الجريد إلى أهمية إدارة الخطاب الإعلامي الرسمي “بشكل براغماتي يركز على المصالح الوطنية العليا ويبرز أهمية البراغماتية في السياسة الخارجية، مع التأكيد على الالتزام بالقضايا العربية الأساسية، مثل حل الدولتين،” في إشارة إلى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
ويدعو الجريد إلى اعتماد دبلوماسية هادئة، “تعتمد على عمليات سرية أو شبه سرية في بناء العلاقات، بدلاً من الإعلانات العلنية التي قد تثير ردود فعل شعبية قوية،” مؤكدا على “ضرورة التعامل مع القضية الفلسطينية كملف دبلوماسي بحت، وليس كموقف ديني أو قومي عربي، لتفادي تعقيدات إضافية في هذا السياق”.
أما الكاتبة العُمانية فاطمة ناصر، فتتفق رؤيتها مع ما طرحه الجريد، معتبرة أن “ممانعة الشارع الخليجي هي العقبة الأكبر، خاصةً مع ارتباط القضية الفلسطينية بالعقيدة الإسلامية”، وتشير إلى أنه لو كانت القضية شأنا سياسيا بحتا، لكان الوضع أكثر سلاسة.”
وتلفت ناصر إلى أن الشعوب الخليجية “تتعامل مع أميركا والدول المطبعة كلها دون مطالبة حكامهم بمقاطعتها، إلا بشكل بسيط في كل هجوم إسرائيلي، ما يعكس تعقيدات الموقف الشعبي تجاه التطبيع.”
وترى ناصر أن دول الخليج قادرة على التوفيق بين مصالحها الاستراتيجية وضغوط الداخل، عبر اعتماد سياسة مزدوجة تقوم على “إمساك العصا من المنتصف والتعاون مع إسرائيل بالخفاء أو كما يقولون (تحت الطاولة). هذا هو الحال منذ سنين طويلة.”
اتفاقيات أبراهام: أين وصلت اليوم؟
ترى الكاتبة العُمانية، فاطمة ناصر، أن اتفاقيات إبراهام لم تحقق نتائج ملموسة على أرض الواقع.
“حتى الآن لا أرى وجود أي نتائج لهذه الاتفاقيات على الأرض، هي حتى الآن تمثل للشعوب قرارا سياسيا بعيدا عنهم ولا يخصهم بشكل مباشر”.
وتضيف أنها “فاشلة إلى حد كبير. في وجهة نظري كان على الحكومات البدء أولا بتوجيه الرأي العام من خلال العمل على طرح سردية تفكيكية للصراع العربي الإسرائيلي، ولماذا بدأت الدول العربية في تغيير منهجية المواجهة العسكرية كما فعلت أيام عبد الناصر والذهاب نحو المفاوضات والحوار والرغبة في التقارب.”
وترى ناصر أن فجوة كبيرة تفصل الشعوب الخليجية عن دوافع السلطات في مسار التطبيع، إذ لا تفهم الشعوب الخليجية، وفق رأيها، “الأسباب الدافعة للسلطات نحو التقارب السياسي مع إسرائيل ولا عن أية استراتيجيات سياسية أخرى، هي معزولة تماما”.
في ما يخص العلاقات مع إسرائيل، ترى ناصر أن الشعوب الخليجية “مغيبة بالكامل”.
تقول “بينما تُتخذ القرارات السياسية، لا يوجد أي تمهيد أو تفسير للشعب الذي يرضخ تحت الخطاب الديني التقليدي الذي لم يتغير طيلة هذه السنوات. وهذا الخطاب يتعلق بمواجهة إسرائيل والصدام معها مهما كان الثمن. وأن ما أخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة”.
وتتابع أن “هذا لم يعد خيارا ممكنا لنا في ظل ضعفنا العسكري. ونتيجته خسران مزيد من الأراضي الفلسطينية التي ذهبت في غمضة عين بسبب العنتريات القومية في وقت من الأوقات.”
التطبيع والأوضاع الإقليمية
يقول جاسم الجريد إن اتفاقيات أبراهام “لم تفشل كما يُروّج، بل واجهت عقبات حالت دون توسعها بالسرعة المتوقعة”.
ويرى أن تأخر انضمام بعض الدول الخليجية يعود إلى عوامل إقليمية معقدة، منها “الوضع السوري غير المستقر والإبادة الدرزية التي أثارت تدخل إسرائيل في حماية هذه الإثنية الدينية العرقية وأن تؤمن حدودها”.
ويضيف أن هناك عوامل أخرى مرتبطة بالقضية الفلسطينية، مثل “غياب الأفق الغزي والضفّي” وتقلب مواقف القيادات الفلسطينية في غزة والضفة الغربية.
يقول الجريد إن “إسرائيل هي الجادة في تقديم مشروع السلام أكثر من الغزيين والضفيين في حل مشاكلهم الداخلية أو تحديد استراتيجية هذه المتاجرة بمصالح الضحايا المقيمين في الضفة وغزة”.
ويقول المصالح الاستراتيجية لدولة الإمارات والبحرين تختلف عن مصالح دول أخرى. فلدى الإمارات والبحرين دوافع أمنية واقتصادية محددة دفعتها للتطبيع.
ويضيف “قد يكون هناك تغير في الحسابات الإقليمية، فمع التقارب الإيراني السعودي الأخير على سبيل المثال، قد تقل حدة بعض الدوافع الأمنية التي كانت تدفع نحو التطبيع. كما أن دول مثل السعودية تضع القضية الفلسطينية كشرط أساسي للتطبيع العلني الشامل.”
ثمار التطبيع: كيف استفادت دول الخليج المُنضمة لاتفاقيات أبراهام؟
منذ توقيع اتفاقيات أبراهام، برزت الإمارات والبحرين كأكثر الدول الخليجية استفادة من التطبيع مع إسرائيل اقتصاديا، وإن كان ذلك بحجم متفاوت.
حققت الإمارات قفزة لافتة في حجم التبادل التجاري، إذ بلغ 1.22 مليار دولار في عام 2021، ثم ارتفع إلى 2.53 مليار في 2022، ووصل إلى 1.43 مليار في الأشهر السبعة الأولى من عام 2024، مع توقّعات بتجاوزه 3.3 مليار في نهاية العام 2025.
وتستفيد الإمارات من اتفاقية التجارة الحرة التي ألغت الرسوم الجمركية على معظم السلع.
أما البحرين، فرغم أن مكاسبها كانت أقل حجما، فإنها شهدت نموا تدريجيا، إذ ارتفعت تجارتها مع إسرائيل من 6.62 مليون دولار عام 2021 إلى نحو 12.78 مليون دولار في 2024.
وتعكس هذه الأرقام أن الاتفاقيات فتحت فرصا اقتصادية مهمة، لا سيما للإمارات، في مجالات التجارة والاستثمار والتكنولوجيا.
في هذا السياق، يرى جاسم الجريد أن هذه المكاسب تمثل دليلا واضحا على نجاح الاتفاقيات.
“العلاقات مع إسرائيل يمكن أن تحقق فوائد اقتصادية ضخمة وملموسة من حيث الاستثمارات والتكنولوجيا والنمو الاقتصادي للإمارات والبحرين، وهو ما قد يشجع دولاً أخرى على التفكير في الأمر. كما يعتبر أن التعاون الأمني إذا أثبت فعاليته في مواجهة التهديدات المشتركة، فقد يجذب ذلك دولاً أخرى إلى هذا المسار”.
والأهم، بحسب رأيه، أنه إذا استطاعت الإمارات أو البحرين من خلال علاقاتهما مع إسرائيل أن تؤثرا بشكل إيجابي وملموس على حياة الفلسطينيين في غزة والضفة أو تفتحا آفاقاً للسلام، فإن ذلك سيشكل دافعا قويا لدول أخرى”.
الحرة
المصدر: صحيفة الراكوبة