لم يكن الاستهلاك يوما سلوكا خاطئا في جوهره، بل كان أمرا طبيعيا: يشتري الناس ما يحتاجونه، ويكتفون بما هو ضروري ومعقول.

لكن في السنوات الأخيرة، تغير هذا السلوك تدريجيا، وأصبح الاستهلاك جزءا من نمط حياة مفروض علينا دون وعي.
لم يعد الأمر مجرد اختيار فردي، بل نتيجة منظومة متشابكة تتداخل فيها عوامل متعددة تدفع الإنسان نحو الاستهلاك المستمر، حتى وهو يظن أنه يختار بحرية.

من أبرز ملامح هذا التحول أن الرغبة أصبحت أقوى من الحاجة.

معظم ما نقتنيه اليوم لا يرتبط بما نحتاجه فعليا، بل بما نُغرى به، أو نظن أنه يُعبر عنا، أو يجاري حاجة شعورية لا نُفصح عنها.

وهذا لم يحدث عبثا، بل نتيجة تسويق دقيق يخلق الرغبة، ويوجه الذوق، ويقنعنا بأننا لا نشتري شيئا نافعا، بل نشتري هوية… وانتماءً… ومكانة.

ومع تغير ما نعتبره “كافيا”، بدأت المقارنة تتسلل بصمت إلى وعينا.
ولم تعد محصورة في محيطنا القريب، بل امتدت إلى آلاف الصور التي تُعرض علينا يوميا عبر الشاشات بلا توقف: صور لمساحات مُتقنة الإضاءة، أو مظهر يومي بتنسيق يبدو مثاليا، أو جلسة بإطلالة بانورامية مدروسة…
وكلها تزرع فينا شعورا خفيا بأننا متأخرون، وأن علينا أن نلحق بالنمط.
لم نعد نشتري لحاجة، بل لنُثبت أننا لسنا خارج الصورة.

وحين نحاول التراجع، تتدخل الخوارزميات بخفاء.
تترصّد ما نحب، ما نبحث عنه، وحتى ما نتردد في اقتنائه.
بمجرد امتلاك هاتف متصل بالإنترنت، نصبح أهدافا لحملات دقيقة لا تستهدف قدرتنا الشرائية فقط، بل تلاحق وجودنا الرقمي ذاته.

وهكذا، لم يعد الأمر مقتصرا على من يملكون القدرة المالية.
حتى من لا تسمح لهم ظروفهم، يجدون أنفسهم داخل الدائرة، من باب العروض المغرية، أو فكرة “اشترِ الآن، وادفع لاحقا”.
فنُقبل أحيانا على شراء ما يفوق طاقتنا، فقط لتجنّب شعور بالنقص أو الإحراج، ولو على حساب استقرارنا المادي.

لكن الثمن؟
التزامات صامتة تتراكم كل شهر، وضغط نفسي لا تبرره الحاجة، بل فقط محاولة اللحاق بنمطٍ لم يُصمّم لصالحنا.

وفي العمق، لا تتغذى هذه المنظومة على المال فقط، بل على الهشاشة الداخلية أيضا…
أصبح الاستهلاك عند كثيرين وسيلة غير معلنة للهروب من مشاعر أعمق: التوتر، الملل، الفراغ، أو حتى الحزن.
وما يبدو أنه يُخفف عنا لبعض الوقت، لا يلبث أن يتلاشى، ويخلف وراءه شعورا بالعبث… واللاجدوى من محاولات لا تنتهي لملء فراغ لا يُملأ بالأشياء.

لهذا، لا يكفي أن نرفع شعار “العقلانية في الاستهلاك”.
بل لا بد أن نواجه أنفسنا بأسئلة صادقة:
هل نحن من يختار؟
هل نشتري ما يعنينا حقا؟
هل نمتلك من الوعي ما يكفي لنقاوم هذا الدفع الخفي؟

قد لا نملك القدرة على كسر المنظومة،
لكننا نملك إمكانية فهم آلياتها، واستعادة تلك المسافة الآمنة بين الحاجة والرغبة، بين ما يفيدنا… وما يُستنزف من أجلنا.

لأن فطرة الإنسان لا تقوم على المقارنة، ولا على السعي الدائم للظهور،
بل على البساطة، والإدراك، واستعمال ما نملك لما ينفع، لا لما يُبهر.

وفي عالم يفيض بالإغراء،
لم تعد استعادة هذا الوعي ترفا مؤجلا،
بل ضرورة وجودية تمنحنا القدرة على صون صفائنا الداخلي،
وحماية ذواتنا من التشتت…
ومنح الحياة ما تستحق من بساطة، واتزان.

المصدر: العمق المغربي

شاركها.