أمد/ لم يكن أحد يتوقع السيناريو، الذي يشهده قطاع غزة، المحاصر في أعقاب السابع من أكتوبر 2023، البعض كان يتوقع أن يوجه جيش الاحتلال ضربات انتقامية، مثلما حدث في عدوان 2005، دون التفكير في أن السيناريو سيكتب الفصل الأخير في مسيرة القطاع، الذي شهد معاناة غير مسبوقة، منذ انقلاب حماس على السلطة الفلسطينية، والانفراد بحكم غزة.
آلاف الشهداء دفعوا حياتهم ثمنًا بلا ذنب، لقرار حماس العشوائي، إلى جانب آلاف الجرحى، بخلاف من فقدوا أسرهم وعوائلهم ومصار دخولهم، حتى أصبحت الأوضاع في تردي يومًا تلو الآخر. الرد الانتقامي الإسرائيلي، لم يكن بالسلاح فقط، بل استخدم الاحتلال “سلاح الجوع” للفتك بسكان غزة، من خلال إغلاق كافة المعابر الحدودية، ومنع شاحنات المساعدات المتدفقة من مصر والعديد من الدول العربية، من الدخول لغزة.
مجاعة شبه تامة
منع إدخال المساعدات تسبب في تدهور الأوضاع الصحية لسكان غزة، خاصة الأطفال وكبار السن والمرضى، وفارق الحياة العشرات من الغزيين، بسبب الجوع وسوء التغذية، ودخل القطاع في مجاعة شبه تامة، وثقتها صور وفيديوهات، انتشرت على وسائل الإعلام المختلفة ومنصات السوشيال ميديا، التي اشتعلت غضبًا من المشاهد المأساوية للأبرياء في غزة.
أمام المشاهد غير المسبوقة، لم تتوقف مساعي مصر وقطر، لوقف إطلاق النار، ومحاولة التوصل إلى صيغة توافقية، للوصول إلى هدنة مؤقته، إلى جانب ممارسة ضغوط هائلة على الاحتلال، للسماح بإدخال المساعدات. وأمام حالة الزخم التي شهدتها مأساة غزة، رضخت إسرائيل للضغوط، وسمحت بإدخال عدد من شاحنات المساعدات، ورغم ذلك، لا تزال أسعار السلع في الأسواق المحلية مرتفعة بشكل غير مسبوقة، تفوق قدرة السكان على الاحتمال.
الاستغلال السياسي والاجتماعي لأوجاع المدنيين
المفارقة الصادمة، هي أن الأسواق في غزة باتت ممتلئة بالبضائع، بينما لا توجد قدرة شرائية لدى سكان غزة، وما يكشف عن معادلة صعبة، تتجاوز منطق الحصار، وتدخل في نطاق الاستغلال السياسي والاجتماعي لأوجاع المدنيين. الوضع الإنساني في غزة، لا يمكن اختزاله فقط في نقص الإمدادات، بل يجب النظر في كيفية توزيعها، ومن يملك السيطرة عليها، ومن يربح من هذه المعاناة المستمرة.
وفي ظل غياب الشفافية، تظهر قوى احتكارية داخلية، يتزعمها كبار التجار، الذين يتحكمون في الأسواق عبر احتكار السلع وتحديد الأسعار، وهي قوى يبدو أنها تعمل بتنسيق غير معلن مع أصحاب المصلحة في غزة. المثير للدهشة هو موقف حركة حماس، التي اكتفت بموقف “المتفرج” بدلا من أن تفرض الرقابة على الأسعار أو تنظم الأسواق، بما يضمن الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية، ولكنها تغض الطرف عن هذه الممارسات الجشعة، إن لم تكن مستفيدة منها بطريقة أو بأخرى.
ورغم حالة الحصار التي يعاني منها غزة، لا زالت حماس تتمسك بالسيطرة على القطاع، وترفض تقديم أي تنازلات، لإنقاذ ما تبقى من المدنيين، أيضا تواصل تصدير صورة لغزة المحاصرة والجائعة إلى الخارج، وتستغل هذه الصورة لخدمة خطاب المقاومة والصمود، ةفي الوقت ذاته، يعيش كبار مسؤوليها، سواء داخل غزة أو في خارجها، في ظروف معيشية مُرفهة، لا تنقصهم الكهرباء ولا الماء ولا الغذاء، وهو ما يعيد إلى الأذهان ممارسات الأنظمة السلطوية، التي تتغنى بالشعارات الثورية، وشعوبها يحاصرها الفقر.
معاناة غزة ورقة سياسية
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: إلى متى تستخدم معاناة سكان غزة كورقة سياسية؟.. الجوع وإن كان نتاجًا للحصار والعدوان، إلا أنه أصبح أيضًا أداة لإخضاع سكان القطاع، وتبرير استمرار الحرب ورفض أي تسوية سياسية قد تُنهي القتال، وكلما اقتربت المفاوضات من وقف إطلاق النار، تعود “حماس” إلى خطابها المتشدد، وكأنها تفضل استمرار حالة الصراع المفتوح، على الدخول في عملية تؤدي إلى هدنة مؤقته.
السياسة التي تتبعها حماس، يدفع ثمنها المدنيين الأبرياء في غزة من الفقراء، والمرضى، والمشردون، والأمهات اللواتي لا يجدن طعامًا لأطفالهن، أولئك الذين تنهكهم الحياة اليومية، لا يرون في استمرار الحرب بطولة، بل عبئا قاتلًا يحرمهم من أبسط حقوقهم. نهج الحركة بات واضحًا، بعد التصريحات التي أدلى بها القيادي الحمساوي خليل الحية، والتي حاول من خلالها تجييش الشعوب العربية والعالمية، لفك الحصار عن غة، مستغلا الخطاب الإعلامي، وغض الطرف عن المجازر البشعة، التي يتعرض لها المدنيين يوميًا في غزة.
إعادة بناء غزة
ومن المؤكد، أن استمرار الحرب في غزة، لا يصب في مصلحة سكانها، مهما حاولت حماس، الظهور في دور المقاومة التي تدافع عن الأرض، ولكن إنهاء القتال بشك دائم، يمكن أن يفتح الباب أمام إعادة بناء غزة، وإقامة مؤسسات رقابية مستقلة، وتحقيق قدر من العدالة الاجتماعية التي تكفل للمواطن العادي حياة كريمة، أما الإصرار على تحويل المعاناة إلى رصيد سياسي، فهو شكل جديد من أشكال الاحتلال.
إذا كانت حماس ترى نفسها سلطة شرعية في غزة، من التفكير في مصلحة المواطن الغزاوي أولا، ووقف التواطؤ مع المحتكرين، ما دون ذلك، فإن خطاب “الحصار” الذي تروجه، يفقد مصداقيته أمام أعين سكان غزة.