علي أحمد
في يومٍ واحد، خرج علينا رجلان من قلب التنظيم الإسلامي السوداني بتصريحين، يبدو لأول وهلة أنه لا صلة بينهما، لكن قراءة متأنية لهما، في ظل السياق السياسي الراهن، تكشف عن خطة خادعة محبوكة، تستهدف تضليل المجتمعين الدولي والإقليمي، وتأمين طريق “العودة غير المشروعة” للحركة الإسلامية الإرهابية إلى السلطة.
فمن جهة، صرّح أحمد هارون، القيادي البارز في النظام البائد، بأن تنظيمه “لن يعود إلى السلطة إلا عبر الانتخابات”، مشددًا على ضرورة بقاء الجيش في السلطة بعد انتهاء الحرب، ومقترحًا إجراء استفتاء على قيادة الجيش التي ستدير البلاد خلال المرحلة الانتقالية، ما بعد الحرب.
ومن جهة أخرى، أعلن قائد ما يُعرف بـ”كتائب البراء بن مالك” تخلي ميليشياه عن العمل العسكري، وانخراط عناصرها في العمل المدني، في خطوة يُراد لها أن تُفهم على أنها مراجعة ذاتية وتحول سلمي.
غير أن هذا التزامن في التوقيت والمضمون لا يمكن فهمه إلا على أنه توزيع متقن للأدوار بين الواجهة السياسية (أحمد هارون) والذراع العسكرية (المصباح أبو زيد)، ضمن سيناريو كبير لإعادة تدوير تنظيم أُسقط بثورة شعبية، ثم حاول استعادة زمام المبادرة بإشعاله حرب 15 أبريل.
من حيث الشكل، تبدو هذه التصريحات وكأنها تعكس واقعية سياسية مستجدة في خطاب الحركة الإسلامية، لكنها في الحقيقة ليست سوى تمويه للوجه الحقيقي للتنظيم، الذي ما زال يسيطر على جزء من المشهد العسكري عبر أذرعه المختلفة.
وقد ألقى بيان “تجمع أبناء العاصمة الوطنية أم درمان”، الصادر في 27 يوليو، الضوء على هذا التناقض، مؤكدًا أن قوات “البراء” لا تزال متمركزة في مواقع معروفة، وأن انسحابها المزعوم لا يعدو كونه محاولة “ساذجة” لخداع الرأي العام المحلي والدولي.
ويذهب البيان إلى أبعد من ذلك، باتهامه هذه الميليشيا بمحاولة طلاء وجهها العسكري بـ”طلاء مدني زائف”، وهي عبارة دقيقة تختصر جوهر الخدعة الجارية: تسويق ميليشيات عنيفة على أنها تحوّلت فجأة إلى أدوات للتنمية، بينما هي تحتفظ بكل أدواتها القتالية ومواقعها الحيوية.
تصريحات هارون الأخيرة ليست بمعزل عن هذا المشهد، بل هي امتداد طبيعي لخطة الحركة الإسلامية التي تسعى إلى إعادة إنتاج نفسها من داخل الخراب الذي أشعلته، عبر الحرب التي بدأت في أبريل 2023، ومهدت عن قصد أو تخطيط لانهيار الدولة وظهور الفوضى باعتبارها البيئة المثلى لعودة المشروع القديم.
هارون، المعروف بقدرته على المناورة السياسية، لم يتحدث عن الانتخابات إلا بعد أن مهدت ميليشياته الأرض بدماء الأبرياء، ولم يتحدث عن “دور سيادي للجيش” إلا لأنه يعلم أن بقاء الجيش في المعادلة هو الضمان لبقاء أحد أجنحة الإسلاميين في السلطة، ولو عبر أقنعة جديدة.
وإذا دققنا في توقيت التصريحين، سنجد أنهما جاءا في لحظة سياسية حرجة، تتكثف فيها الضغوط الدولية نحو وقف الحرب، ويتردد فيها الحديث عن ترتيبات سياسية تقودها الآلية الرباعية (الولايات المتحدة، بريطانيا، السعودية، والإمارات)، وهو ما يهدد فعليًا المصالح المباشرة للتنظيم الإسلامي، الذي يرى في أي تسوية حقيقية خطرًا على وجوده. لذا، يأتي هذا الخطاب السياسي المموه لتقديم واجهة مقبولة، بينما تُبقي الحركة على كامل أدواتها العسكرية والسياسية.
من زاوية أخرى، يمكن فهم هذه التصريحات أيضًا كاستراتيجية استباقية لتفادي العقوبات الدولية، فالحركة الإسلامية وأجنحتها المسلحة تعلم جيدًا أن ملفاتها باتت على طاولة مجلس الأمن، وأن التسريبات حول تورطها في تمويل الحرب والتخطيط لانقلابات، ستقود إلى محاسبة دولية. لذا، تسعى حاليًا إلى تهدئة واجهتها العسكرية شكليًا، وتقديم صورة “مدنية” زائفة تحميها من الملاحقة.
ولعل الأخطر، أن جزءًا من هذه الخطة يتضمن التخلص من الجنرال عبد الفتاح البرهان نفسه والانقلاب عليه، في حال اختار التفاوض أو الانخراط في أي عملية سلام قد تعطل مشروعهم.
تصريح هارون، حين تحدث عن ضرورة استفتاء على قيادة الجيش التي يُناط بها إدارة المرحلة الانتقالية، يوحي بأن البرهان لم يعد يُنظر إليه كشريك مضمون، بل كقائد محتمل “الانفلات”، يجب تحييده عاجلًا أو آجلًا.
ما يجري أمامنا ليس تحوّلًا حقيقيًا نحو السلام، بل عملية خداع استراتيجية تديرها الحركة الإسلامية بدهاء، مستخدمة أدوات السياسة، والبيانات، والتصريحات الإعلامية، لتجميل وجهها القبيح، وتقديم نفسها كجزء من الحل، في حين أنها أصل المشكلة.
التنظيم الذي فجّر حرب 15 أبريل، وموّل ميليشيات، ودمّر البنية التحتية للدولة، لا يمكن أن يكون جادًا في الحديث عن انتخابات أو تنمية. إنه فقط يبدّل جلده، منتظرًا اللحظة المناسبة للانقضاض مجددًا.
على المجتمعين الدولي والإقليمي أن يدركا أن ما يُعرض عليهما ليس خارطة طريق نحو الاستقرار، بل خارطة تضليل نحو إعادة إنتاج الكارثة، وأن ما يُطلب منهما اليوم هو رفض هذا التمثيل الخادع قبل أن يتحول إلى واقع يصعب تغييره.
المصدر: صحيفة الراكوبة