التمويل وتحديات إعادة الإعمار وتنمية  قطاعات الإنتاج ،    الزراعة نموذجا

عمر سيد أحمد خبير مصرفي ومالي مستقل

[email protected]

 

🔹 هذا المقال مستخلص من ورقة علمية بحثية مقدّمة إلى مؤتمر مشروع الجزيرة في العيد المئوي لتأسيس المشروع، المنعقد في الفترة من 18 إلى 26 يوليو 2025، ويعرض أبرز محاور وتوصيات الورقة حول قضايا إعادة الإعمار وتنمية القطاعات الإنتاجية، مع تركيز خاص على الزراعة كركيزة للسيادة الاقتصادية.

مقدمة

يشهد السودان لحظة فارقة في تاريخه الحديث بعد اندلاع الحرب في أبريل 2023، التي تسببت في دمار غير مسبوق للبنية التحتية، وتفكك مؤسسات الدولة، وانهيار القطاعات الإنتاجية، وانفلات الأسواق، وتوسّع الاقتصاد الموازي، مع  تراجع الإيرادات العامة وانهيار المنظومة المصرفية وغياب ميزانية مركزية موحدة، دخل الاقتصاد السوداني في واحدة من أسوأ أزماته على الإطلاق، حيث تقلّص الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من40  % خلال عامين فقط مما جعل تمويل إعادة الإعمار تحديًا وجوديًا للدولة السودانية.

في هذا السياق بالغ التعقيد، تبرز مسألة التمويل كحجر الزاوية لأي عملية إعادة إعمار ناجحة. فالسودان الخارج من حرب مدمّرة لا يمتلك فوائض مالية أو نظامًا مصرفيًا فاعلًا، كما أن قدرته على جذب التمويل الخارجي مرهونة بتوفر شروط صعبة مثل الاستقرار السياسي، والحوكمة الرشيدة، والتوافق الوطني وهي عناصر ما تزال غائبة حتى الآن. في المقابل، تزخر البلاد بموارد وطنية ضخمة لم تُوظف بفعالية، وعلى رأسها الزراعة، والذهب، وتحويلات السودانيين في الخارج.

تجادل هذه الورقة بأن إعادة الإعمار في السودان لا يمكن اختزالها في بعد هندسي أو تقني، بل هي قضية سياسية واقتصادية بامتياز، تتطلب إعادة ترتيب أولويات الدولة، وتعبئة الموارد الذاتية، وتوظيفها في اتجاه إنتاجي وتنموي يُفضي إلى السيادة الاقتصادية. وتنطلق الورقة من فرضية مركزية مفادها أن تعبئة الموارد الذاتية وربطها بإصلاحات مؤسسية وتمويلات مبتكرة يمكن أن تشكّل بديلاً واقعيًا وفعّالًا لتمويل إعادة الإعمار والتنمية، خاصة في ظل محدودية التمويل الخارجي.

من هنا، تكتسب الورقة أهميتها، ليس فقط من حجم الدمار الذي خلّفته الحرب، وإنما من الحاجة العاجلة إلى تقديم تصور وطني واقعي لتمويل الإعمار وتنمية القطاعات الإنتاجية، مع تركيز خاص على الزراعة. وتستند في ذلك إلى دراسات مقارنة وتجارب دول نجحت في تجاوز الكوارث والحروب، مثل رواندا وإثيوبيا وفيتنام، مستفيدة من الإرادة السياسية والشراكات المجتمعية والابتكار في أدوات التمويل.

تسعى الورقة للإجابة عن السؤال المحوري الآتي:

ما هي فرص التمويل المتاحة من خلال حشد وتعبئة الموارد الذاتية، واستغلال فرص التمويل الخارجي، لإعادة الإعمار وتنمية القطاع الإنتاجي، مع التركيز على الزراعة، في السودان بعد الحرب؟

وللإجابة على هذا السؤال، تعتمد الورقة منهجًا تحليليًا مركبًا يجمع بين تحليل السياسات العامة، والمقارنة الدولية، وتحليل الوثائق الصادرة عن المنظمات الدولية والتقارير الحكومية، إلى جانب تحليل اقتصادي كلي يستند إلى بيانات حديثة من البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، وبنك التنمية الإفريقي، بالإضافة إلى دراسات حالة لدول عالجت تحديات مماثلة.

أهداف الورقة

تهدف هذه الورقة إلى:

  • تحليل تحديات تمويل إعادة الإعمار في السودان بعد الحرب، في ظل الانهيار الاقتصادي والمؤسسي.
  • استكشاف إمكانيات تعبئة الموارد الذاتية، خاصة من الذهب، وتحويلات السودانيين بالخارج، والإصلاح الضريبي.
  • تقييم فرص التمويل الخارجي المتاحة في ظل العزلة السياسية والتحولات الجيوسياسية.
  • استعراض تجارب دول خرجت من النزاعات في تعبئة الموارد وتمويل الإعمار، واستخلاص الدروس الممكنة للسودان.
  • اقتراح أدوات وآليات تمويل سيادية مبتكرة تربط بين الموارد والإنتاج، مع تركيز خاص على الزراعة.
  • تقديم تصور لسياسات وفرص تمويل مستدامة تربط بين الموارد وتوظيفها في الإنتاج والتنمية، وتؤسس لاقتصاد منتج وشفاف بعد الحرب.

الرسالة الجوهرية

إن إعادة إعمار السودان ليست مجرد مسألة تمويل، بل قضية سيادة اقتصادية وعدالة تنموية، تتطلب تغييرًا في بنية الدولة ونموذجها الاقتصادي، لصالح إنتاج محلي عادل ومستدام.

مشهد ما بعد الحرب: اقتصاد على شفير الانهيار

 

منذ أبريل 2023، دخل السودان واحدة من أسوأ لحظاته التاريخية. لم تتوقف الكارثة عند الحرب المدمرة بين الجيش وقوات الدعم السريع، بل اتسعت لتشمل تدمير البنية التحتية، وتفكك مؤسسات الدولة، وانهيار الثقة في النظام المالي، وتوقف الإنتاج، وشلل تام في القطاعات الحيوية.

خسائر بشرية تجاوزت 130 ألف قتيل، وما لا يقل عن 50 ألف مفقود، وأكثر من 13 مليون نازح، إلى جانب كارثة تعليمية تركت أكثر من 17 مليون طفل خارج مقاعد الدراسة.

تشير تقارير البنك الأفريقي للتنمية إلى أن الناتج المحلي الإجمالي انكمش بنسبة 37.5% في عام 2023، ثم بنسبة 12.8% في 2024، مع تراجع إضافي بنسبة 0.6% متوقع في 2025 ما لم تُحسم الحرب.

في المقابل، أعلنت حكومة الأمر الواقع في بورتسودان أن تكلفة إعادة الإعمار تتجاوز التريليون دولار، بينما تشير تقديرات البنك الأفريقي إلى فجوة تمويل سنوية تتجاوز 24.3 مليار دولار مبلغ لا يمكن تأمينه من المانحين وحدهم، خاصة في ظل غياب حكومة موحدة، وتعطّل النظام الضريبي، وتآكل الإيرادات، وانفلات الأسواق.

الذهب: من مورد منهوب إلى أداة سيادية

في بلد يُنتج ما بين 90 إلى 100 طن من الذهب سنويًا، بقيمة تتجاوز 10 مليارات دولار، تبدو الفجوة بين الإمكانات الكامنة والواقع القائم فادحة. أكثر من 80% من الذهب يُهرّب خارج القنوات الرسمية، ما يعني فقدان مباشر لعائدات تتجاوز 7 إلى 8 مليارات دولار سنويًا.

توصي الورقة بتحويل الذهب من مورد منهوب إلى أداة سيادية فعّالة تساهم في تمويل الإعمار والتنمية الاقتصادية. ويبدأ ذلك بإنشاء بورصة سودانية للذهب تسهم في تسعير الإنتاج ومراقبة الأسواق، بما يعزز الشفافية ويحد من التهريب.

كما تُقترح آلية إصدار سبائك وطنية وسندات ذهبية موجّهة للمغتربين والمستثمرين الوطنيين، ما يوفر أدوات ادخار واستثمار موثوقة. وترى الورقة ضرورة حصر تصدير الذهب عبر بنك السودان المركزي لضمان سيطرة الدولة على العائدات، على أن تُوظّف هذه العائدات مباشرة في تمويل الزراعة ومشروعات البنية التحتية الحيوية.

ويُستكمل هذا النهج بإنشاء مصفاة وطنية للذهب ومعامل لصياغته داخل السودان، بهدف تعظيم القيمة المضافة وتقليل الاعتماد على التصدير الخام.

تحويلات السودانين العاملين بالخارج : طاقة نقدية مهدورة

 

في الوقت ذاته، تُقدّر تحويلات السودانيين العاملين بالخارج بأكثر من 5 مليارات دولار سنويًا، لكن أكثر من 80% منها تمر عبر السوق الموازي، نتيجة تعدد أسعار الصرف وانعدام الثقة في النظام المصرفي.

وترى الورقة في هذه التحويلات فرصة استراتيجية يجب اغتنامها. وتدعو إلى استثمارها عبر أدوات مبتكرة، مثل إصدار شهادات استثمار بالدولار بعوائد محفزة ومضمونة، وإنشاء بنك خاص بالسودانيين في الخارج، يكون مقره داخل السودان ويُدار باستقلالية وشفافية عالية. كما توصي بربط التحويلات بمشروعات إنتاجية وزراعية محددة تضمن أثرًا تنمويًا مباشرًا، إلى جانب توفير سعر صرف رسمي عادل ورسوم تحويل منخفضة تشجع على استخدام القنوات الرسمية.

النظام المصرفي السوداني: تشخيص الانهيار

يمتلك السودان 39 بنكًا، لكن متوسط رأس المال لا يتجاوز 2030 مليون دولار، مقارنة بـ1 مليار دولار في مصر، و250 مليون دولار في كينيا.

نسبة كفاية رأس المال هبطت من 11% في 2020 إلى 7.1% في 2021، وهي أقل من المعيار العالمي المحدد بـ12%.

أكثر من 95% من الكتلة النقدية متداولة خارج النظام المصرفي، وتغيب الأدوات الفعالة للسياسة النقدية.

بينما تحتكم دول مثل كينيا ومصر إلى أدوات تنظيم السوق المفتوحة، فإن بنك السودان فقد سيطرته تمامًا، وتحوّل إلى ذراع تمويلية للسلطة التنفيذية.

 

الشمول المالي لا يتجاوز 15% من السكان، مقارنة بـ84% في كينيا، و67% في مصر. تغيب الخدمات المصرفية في الأرياف والمناطق الطرفية، وينحصر التمويل في أنشطة تجارية قصيرة الأجل، دون أي علاقة بالزراعة أو الإنتاج الحقيقي.

خريطة طريق لإصلاح الجهاز المصرفي

 

تقترح الورقة مجموعة من الإصلاحات الهيكلية تبدأ بـدمج البنوك الضعيفة وتصفية غير القادر منها على الوفاء بمعايير بازل III، وإعادة تأسيس بنك السودان المركزي كجهة مستقلة عن السلطة التنفيذية، والانتقال الفوري إلى النظام المصرفي المزدوج (نافذتان: إسلامية وتقليدية) كما في ماليزيا.

كما تشمل الإصلاحات إعادة إصدار العملة الوطنية بهدف سحب الكتلة النقدية إلى النظام الرسمي ومحاصرة السوق الموازي، وتبني التكنولوجيا المالية (Fintech) لتوسيع الشمول المالي عبر المحافظ الإلكترونية، والتمويل المصغر، والتحويلات الرقمية.

 

الزراعة: من ضحية الحرب إلى محرك الإعمار

رغم الأضرار الجسيمة التي لحقت بالقطاع الزراعي خلال الحرب، إلا أن الورقة ترى فيه القاطرة الممكنة لتعافي الاقتصاد السوداني.

وتقترح تأسيس صندوق سيادي زراعي يُموّل من عائدات الذهب وتحويلات المغتربين، ويُخصّص لتمويل الإنتاج الزراعي والبنية التحتية المرتبطة به.

كما تدعو إلى إحياء نظام الجمعيات التعاونية بوصفه وسيلة لتنظيم المنتجين وتعزيز قدرتهم التفاوضية، وتشمل المقترحات إدخال أدوات تأمين زراعي تحمي صغار المزارعين من المخاطر المناخية، وتوسيع استخدام التكنولوجيا الزراعية والمالية، إلى جانب تشجيع القطاع الخاص على الاستثمار في مشروعات البنية الزراعية.

 

التمويل الخارجي: ضرورة مشروطة

 

على الرغم من أهمية تعبئة الموارد الذاتية، تؤكد الورقة أن التمويل الخارجي يظل ضروريًا لتنفيذ مشروعات إعادة الإعمار الكبرى، لا سيما في مجالات البنية التحتية والصحة والتعليم.

غير أن هذا التمويل يجب أن يكون مشروطًا باستعادة الشرعية السياسية والمؤسسية في البلاد، ما يتيح التفاوض الفعّال على الديون الخارجية التي تجاوزت 90 مليار دولار.

وتدعو الورقة إلى تفعيل آليات التمويل الأخضر والمناخي والزراعي، وربطها بأولويات التنمية المستدامة، مع حوكمة دقيقة لهذه الموارد تضمن عدم تحولها إلى أداة للارتهان السياسي أو الهيمنة الخارجية.

 

نماذج دولية ملهمة

 

تستعرض الورقة عددًا من التجارب الدولية الناجحة التي يمكن الاستفادة منها. فقد استطاعت رواندا تجاوز آثار الإبادة الجماعية عبر مصالحة مجتمعية واسعة واستثمار ذكي في التعليم والبنية التحتية.

وفي كينيا، شكلت منصة MPeas تجربة رائدة في الدمج بين المالية الرقمية والتمويل الزراعي. أما البرازيل، فقد اعتمدت على برنامج PRONAF لدعم صغار المزارعين، بينما مزجت فيتنام بين الزراعة والصناعة والتصدير ضمن خطة وطنية شاملة للتحول الاقتصادي.

 

الخاتمة

تمثل عملية إعادة الإعمار في السودان، بعد الحرب المدمرة التي اندلعت في أبريل 2023، تحديًا وجوديًا يتجاوز البعد الاقتصادي إلى إعادة تأسيس الدولة نفسها. إذ أدت الحرب إلى تفكك المؤسسات، وانهيار البنية التحتية، وتراجع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تجاوزت 50%، في ظل تآكل الإيرادات العامة، وغياب ميزانية مركزية موحدة، وانهيار القطاع المصرفي.

 

في هذا السياق، لم تعد الأدوات التقليدية للتمويل مثل الاقتراض الخارجي أو التعويل على المنح الدولية مجدية أو كافية. كما أن تجارب الدول الخارجة من النزاع أثبتت أن بناء اقتصاد منتج ومستقل يتطلب إرادة سياسية إصلاحية، وتعبئة جادة للموارد الذاتية، ومقاربة تنموية تعطي الأولوية للقطاعات الإنتاجية، وعلى رأسها الزراعة.

 

لقد بيّنت الورقة أن السودان يمتلك موارد سيادية ضخمة مثل الذهب، وتحويلات المغتربين، والأراضي الزراعية يمكن أن تُوظف، إذا ما وُضعت تحت مظلة مؤسسية شفافة، لتمويل عملية إعادة الإعمار دون الوقوع في فخ الديون أو الارتهان السياسي للخارج. ويتطلب ذلك إعادة هيكلة النظام المصرفي، وإطلاق أدوات تمويل مبتكرة مدعومة بالذهب، وتأسيس صناديق سيادية للزراعة والإنتاج، إضافة إلى إشراك السودانيين في المهجر ضمن منظومة وطنية تنموية عادلة وشفافة.

 

كما شددت الورقة على أن إصلاح الاقتصاد لا ينفصل عن إصلاح منظومة الحكم. فالحوكمة الرشيدة، وولاية وزارة المالية على المال العام، واستقلالية البنك المركزي، وإخضاع موارد الدولة بما فيها العسكرية والأمنية للموازنة العامة، كلها شروط لا غنى عنها لبناء الثقة، ووقف نزيف الموارد، وخلق بيئة مواتية للنمو والاستثمار.

 

في نهاية المطاف، فإن التعافي الاقتصادي في السودان ليس مجرد مسألة فنية أو مالية، بل هو قرار سيادي واستراتيجي يتطلب شجاعة في مواجهة الفساد، وجرأة في كسر النظم الريعية، وتواضعًا سياسيًا يفتح الباب أمام الشراكة المجتمعية في إدارة موارد البلاد. وحده هذا الطريق هو القادر على تحويل آلام الحرب إلى أمل في البناء، والدمار إلى فرصة لبعث جديد قائم على الإنتاج، والعدالة، والسيادة الوطنية.

 

 

 

 

 

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.