في ظل احتدام الصراع السياسي والعسكري، وتعقّد مسارات الحل الوطني، تتجدد الأسئلة حول مفهوم «دولة 56» وما إن كانت فعلاً أصل الداء السوداني، أم مجرد شماعة تاريخية تُستخدم لتبرير إخفاقات الحاضر. في هذا السياق، يقدم كل من الأستاذ الوليد مادبو والدكتور النور حمد مقاربات فكرية عميقة حول جذور الأزمة، تضع “دولة 56” تحت مجهر النقد البنيوي، وتسعى لتفكيك التاريخ السياسي السوداني في علاقته بالثورة والهوية والمركزية.
التغيير ــ الخرطوم
يرى د. الوليد مادبو أن دولة 56 دولة قامت على التسويات الفوقية، فانحنت أمام الضغوط الجهوية والدينية والأيديولوجيات العقائدية. ويضيف أن الدولة السودانية شهدت عقودًا طويلة من الإقصاء الثقافي، المركزية الإدارية، والهوية الأحادية. ويؤكد أن الشرعية في دولة 56 لم تُمنح من أصوات الناخبين بل من تحالفات نُخَب الخرطوم ودوائر السلطة التقليدية. ويرى مادبو أن كافة الثورات السودانية قامت لتنهي قرونًا من التهميش البنيوي، وتُطلق لحظة التأسيس الجذري لدولة تُكتب بأيدي المواطنين.

ويتابع : إن نص ميثاق “تأسيس” أقر بمبادئ فوق دستورية، أهمها العلمانية التي تعني ببساطة أن الممارسة السياسية ممارسة بشرية، وأن “الزعيم” لا يعرف الحقيقة المطلقة، إلى جانب اللامركزية الثقافية والإدارية، وحق تقرير المصير والمواطنة المتساوية.
ويشدد مادبو على أن المطلوب هو تأسيس عدالة تاريخية تُعيد الاعتبار للتاريخ المسكوت عنه، تحديدًا تاريخ العبودية، والاستغلال الاقتصادي للأرياف، والتهميش الثقافي والسياسي لكافة المجتمعات.
ويرى أن هذا التأسيس يجب أن يكون ثوريًا وأخلاقيًا، لا مجرد قانوني، وأن يشمل تفكيك العنف الرمزي وتحرير الناس من الإهانة ومن التسلط ومن الذاكرة المُهينة والمُهانة.
ولتحويل هذه المبادئ إلى برامج عملية، يرى مادبو ضرورة إنشاء هيئة الحقيقة والمصالحة لمعالجة الجراح المفتوحة، وتأسيس الأجسام الدستورية، ووضع التصورات الفكرية والفلسفية للمناهج التعليمية والتربويّة، إلى جانب إعداد خطة إعلامية تتماشى مع المبادئ الدستورية، وتشييد المؤسسات العسكرية والشرطية والأمنية كمؤسسات مدنية، وإشراك الجميع في وضع استراتيجية قومية للتنمية.
ويؤكد أنه كان يمكن التوصل إلى هذه الحقائق سلميًا، لولا الإنكار الجماعي للظلم التاريخي والاجتماعي، والتسويف الذي مارسته بعض النخب، بينما اختار آخرون التحايل على منطق الأشياء.
ويتهم مادبو نخب 89 بالسطو على المجتمع وتمزيق عراه، والتسبب في تآكل الهوية الوطنية، وفسح المجال للأفكار المريضة التي عششت في ذهن “عرّاب الدولة الإسلامية”، حيث رفضوا الاشتباك مع الأفكار حضاريًا ومدنيًا، وفضلوا الاحتكام للبندقية هربًا من العدالة الثورية.
نخب 56
ويصر مادبو على أن نخب 56 لم يكونوا مجرمين، بل وطنيين ومتجردين، ولكنهم فشلوا في طرح رؤى تأسيسية لأسباب موضوعية وذاتية، لكنهم لم يتآمروا على الشعب. ويضيف أنه إذا فشلت حكومة “تأسيس” في الالتزام بالمبادئ الدستورية، وأخفقت في تحويل الوثيقة الدستورية إلى واقع عملي، فستسقط لا محالة في فخ المحاور والقبلية، وتتحول الثورة إلى صراع وجودي، كما يقول الدكتور خالد كودي.
ويعتقد مادبو أن الدعم السريع يسيطر على تحالف “تأسيس” فقط من الناحية النظرية، نظرًا لأنه يترأسه، لكن واقعياً، اعتبره الحلقة الأضعف تنظيميًا وفكريًا، ولذلك استعان بكوادر حزب الأمة بحسب رؤيته، لجهة أن لهم رواسب طائفية تجعلهم يهتمون بالتكتيك لا بالاستراتيجية، وبالأشخاص لا بالمعايير. ويضرب مثالًا بلجنة اختيار رئيس الوزراء، التي سلكت طريق “أم غُمتي”، رغم أن الشفافية تقتضي مشاورة القواعد، خاصة في منصب خطير مثل رئاسة الوزراء، الذي يتطلب فحص خلفية المرشح الفكرية، والثقافية، والاجتماعية، وحتى استقراره الأسري، ومدى استقلاليته الاقتصادية، كما يحدث في الدول المتحضرة. ويحذر مادبو من انتقال أمراض الإنقاذ إلى جسد الثورة إذا لم يتم العمل على رفع المناعة الأخلاقية والفكرية، وقال “إن داخل كل واحد منا كوز صغير حقير ينتهز الفرصة للتسلق على جثث الشهداء”.
ويختم مادبو بتحليل الفارق بين “تأسيس” و”بورتكيزان”، موضحًا أن حميدتي يولي أهمية للاستقلالية والمسؤولية الفردية ولا يتدخل إلا عند الضرورة، بينما برهان يتولى المهام بنفسه أو عبر مقربيه، ويوكل الأوهام للآخرين. ويقول: “هنا في تأسيس مهام بلا أوهام، وفي بورتكيزان أوهام بلا مهام”.
دولة ساق الشجرة
أما الدكتور النور حمد، فيعتقد أن دولة 56 هي الدولة التي تمخضت عن الحراك الذي قاد إلى الاستقلال عام 1956. ويشير إلى أن البعض يحاول حصر الأزمة في دولة الإخوان المسلمين التي جاءت بانقلاب 1989، لكن الحقيقة أن تلك الدولة ليست سوى نتيجة طبيعية لدولة 56، وتتويج لقصورها وفشلها. ويصف النور دولة 56 بأنها “ساق الشجرة”، ودولة الكيزان بأنها الفروع التي أنتجتها، بما فيها من أوراق شاحبة وثمار مرة، ويرى أن العلة تكمن في الأصل وليس في الفرع.

ويؤكد أن انفصال جنوب السودان عام 2011، رغم أنه وقع في عهد الكيزان، إلا أنه كان نتاجًا لرفض دولة 56 للحكم الفيدرالي الذي نادى به الجنوبيون بعد الاستقلال، وتمت مواجهتهم بالقوة. كما يشير إلى أن محاولات فرض الشريعة الإسلامية بدأت منذ الاستقلال، حين دعا البعض لتسمية السودان “جمهورية إسلامية”، واستمر هذا الاتجاه في ما سُمّي بالدستور الإسلامي عقب ثورة أكتوبر، الذي دعمته الأحزاب الكبرى، وكاد أن يُجاز في البرلمان لولا انقلاب نميري في 1969.
ويذكر حمد أن الديمقراطية الثانية (19651969) شهدت طرد نواب الحزب الشيوعي من البرلمان رغم انتخابهم، كما شهدت الحكم بالردة على الأستاذ محمود محمد طه، وهو الحكم الذي استُدعي لاحقًا لإعدامه في 1985. ويصف دولة 56 بأنها دولة النخب السياسية والتجارية التي احتكرت السلطة والثروة في المركز، وهمّشت الأقاليم، وأنكرت التعددية والتنوع، وفرضت رؤيتها على من هم خارج ناديها السياسي والثقافي والتجاري.
ويرى أن الحكومة التي ستُعلن في مناطق سيطرة تحالف تأسيس تختلف جوهريًا في أسسها عن دولة 56، التي رفضت العلمانية وأفرغت الفيدرالية من محتواها. ويؤكد أن الدستور والميثاق السياسي الذي طرحه تحالف تأسيس يمثل نقيض المراوغات والالتواءات التي اتسمت بها دولة ما بعد الاستقلال. ويقول إنه من لا يرى التماثل البنيوي بين الديمقراطيات الثلاث، ونظامي عبود ونميري، ونظام الترابي/البشير، لم يدرس التاريخ كما ينبغي، مشيرًا إلى أن جميع تلك الأنظمة تمسحت بالدين، باستثناء نظام عبود.
ويختتم النور حمد بالقول إن حكم البشير والترابي كان الأسوأ، لكنه كان النتيجة الطبيعية للخلل البنيوي الذي بدأ بعد الاستقلال، مضيفًا أن ثورة ديسمبر لم تأتِ فقط لاقتلاع الكيزان، بل لاجتثاث التصورات السياسية والثقافية والاقتصادية التي أنجبتهم.
بناء مشروع وطني
يرى د. خالد كودي أن ما يُعرف بـ”دولة 56″ في إشارة إلى الدولة السودانية التي نشأت بعد الاستقلال في عام 1956 كانت دولة مركزية، نخبوية، وإقصائية، ورثت بنية الاستعمار دون أن تُحدث تغييراً جذرياً في البنية السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية. ويعتقد أن هذه الدولة فشلت في بناء مشروع وطني جامع، حيث كرّست التهميش الممنهج وفرضت هوية عروبيةإسلامية أحادية على حساب التنوع الثقافي والديني والإثني في السودان.

ويضيف كودي أن المناهضين لدولة 56، وعلى رأسهم الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال، يتبنون مشروع “السودان الجديد”، الذي يقوم على أسس الدولة العلمانية الديمقراطية اللامركزية، ويعترف بالتنوع ويؤمن بالعدالة الاجتماعية والتاريخية، وحق تقرير المصير كمبدأ دستوري لبناء السلام المستدام.
وفيما يخص مشاركة قوات الدعم السريع في أي حكومة مستقبلية، يوضح كودي أن الأمر لا يُطرح من باب تمجيدها، بل من منطلق تحالف مرحلي ضمن مشروع “تحالف تأسيس” لتفكيك بنية دولة 56 وتحجيم هيمنة الجيش التقليدي. ويشدد على ضرورة التزام جميع الأطراف بمبادئ العدالة والمحاسبة، معتبراً أن المسألة تتعلق ببنية الدولة لا بالأشخاص أو الفصائل.
ويؤكد د. خالد كودي أن دولة 56 انتهت عملياً بفعل الثورة والحرب، وما تبقى حالياً هو بقايا دولة 1989، التي يسعى الإسلاميون والعسكر إلى إعادة إنتاجها. ويرى أن “تحالف تأسيس” يمثل قطيعة تاريخية مع هذا الإرث، داعياً إلى تأسيس دولة جديدة تقوم على العدالة والمساواة.
المصدر: صحيفة التغيير