أمد/ فبرحيل زياد الرحباني، تُطوى صفحة فريدة من صفحات الفن العربي، صفحة لم تُكتب بالحبر، بل كُتبت بالموسيقى والمرارة، بالسخرية والصدق الصادم. لم يكن زياد مجرد فنان موهوب، بل كان مشروعًا كاملاً لمثقف مقاوم، فنان ملتزم، ومواطن يُصر على ألا يصمت مهما كلفه ذلك.

زياد، ابن الأسطورة فيروز والملحن الكبير عاصي الرحباني، خرج مبكرًا من عباءة الإرث الرحباني، ليبني عالمه الخاص. وهو في السابعة عشرة فقط، كتب ولحن أعمالًا مسرحية لافتة، ثم قدّم لفيروز واحدة من أشهر أغانيها، “سألوني الناس”، حين كان والده طريح الفراش.

لكنه زياد بدلًا من أن يسلك الطريق السهل للنجومية العائلية، فضل أن يغامر: في مسرحيات مثل “بالنسبة لبكرا شو؟” و”فيلم أميركي طويل”، قدّم فيها شخصيات واقعية جداً تتحدث بلهجة الشارع، وتحمل قلقًا طبقيًا وسياسيًا واضحًا، وتنتمي لعالم من المهمشين.

كانت معرفتي عن زياد بسيطة جداً، ولكني عرفته كما هو بلا أقنعة’، من خلال سلسلة لقاءاته الصريحة والمطوله والصادمة مع الإعلامية الراحلة جيزال خوري، ظهر زياد كما هو: متعب، حاد، صادق،مجنون، عاقل وصادم أحيانًا، لكنه الفيلسوف دوماً. كانت تلك الحوارات من القلائل التي استطاعت أن تلامس أعماق شخص لا يمكن ترويضه.

في أحد تلك اللقاءات، والتي أعود إليها بين الفينة والأخرى، لازلت أذكر عبارة قالها بمرارة: “ما فيك تكون فنان عن جد إلا إذا كنت مأزوم.. أنا كل عمري مأزوم.”

تحدث عن الحرب الأهلية التي شكّلت وعيه، عن خيبته من اليسار الذي آمن به وأحبه، عن تمرده على الطائفية، وعجزه عن الفعل في، لكنه في كل هذه اللقاءات كان صادماً في قول الحقيقة كما يراها، لا كما يريدها الجمهور.

وحين سألته جيزال خوري عن “الوطن”، قال ببساطة وبحزن عميق:

“الوطن هو محل بتعرفي إذا بدك تضلك فيه ولا لأ. وأنا مش عارف.” وحفرت هذه المقولة في ذاكرتي إرتباطاً بتساؤل غسان كنفاني في روايته “عائد إلى حيفا”، “ما هو الوطن يا صفية؟”.

أما عن فيروز، فكان صريحًا حد الوجع: “أنا وفي لفيروز كصوت، كرمز، كأم، بس مش دايمًا كقرار.”

أما عن السياسة عند زياد: فكانت لا حياد في زمن القتل. فمنذ بداية الحرب اللبنانية، اختار زياد موقعه: في خندق الفقراء، واليسار، والمقاومة الفلسطينية. انتمى فكريًا إلى الحزب الشيوعي، وانتقد كل من ساهم في الطائفية وتقسيم البلد. لم يساوم، ولم يجامل. في زمن الاصطفافات الطائفية الحادة، عبّر عن مواقف أثارت جدلاً واسعًا، لكنه ظل وفيًا لمبادئه كما يراها هو، معتبرًا أن الفن يجب أن ينحاز، وأن “الحياد خيانة إذا كانت الناس عم تموت”.

رحل زياد رحيلاً يشبهه تماماً، في زمن عربي مثقل بالهموم وبالفواجع و بالهزائم، كما عاش تمامًا. غادرنا وهو لا يزال يحاول صياغة جملة جديدة، نغمة صادقة، أو موقف يشبهه. أراد فقط أن يقول ما يشعر به، وأن يكتب، ويلحن، ويفضح، ويضحك أحيانًا على نفسه.

سيبقى زياد في الذاكرة، لا فقط كفنان عبقري، بل كوجدان ثقافي رفض أن يتصالح مع القبح أينما كان.

سيبقى صوته في لقاءات جيزال خوري، أغانيه، تسجيلاته، ومسرحياته، حكاية رجل “ما كان راضي”، ولم يقبل أن يكون جزءًا من الكذبة.

“أنا مش شاعر، بس بعرف شو يعني إنك تحب شعبك وتِخون الكل عشانه.”

رحمك الله يا زياد… كنت مرآتنا الأصدق، ووجعنا الأجمل.

شاركها.