حكومة موازية وانقسام جديد تتحمل مسؤوليته الحركة «الإسلامية»

خالد أبو أحمد

اليوم، يُكتب فصل جديد ومأساوي في تاريخ السودان، ليس كحدث طارئ في سياق أزمة سياسية، بل كترسيخ فعلي لانقسام الدولة وبداية تحولها إلى كيانين متوازيين، متصارعين في الشرعية والسلطة،  فقد أعلن ائتلاف بقيادة مليشيا قوات الدعم السريع، ومن خلفه حُلفاء سياسيون ومدنيون، تشكيل حكومة موازية، يرأس مجلسها الرئاسي المجرم قائد المليشيا محمد حمدان دقلو (حميدتي) ، في خطوة تُعد الأخطر منذ اندلاع الحرب بين في السودان في أبريل ٢٠٢٣م.

هذه الحكومة، التي وُلدت من رحم الصراع المسلح، تعلن بوضوح أن السودان لم يعد مجرد بلد يواجه حربًا داخلية، بل دولة تمزقت إلى مشروعين سياسيين وجغرافيين متوازيين: أحدهما مشروع (الحركة الإسلامية) في الخرطوم وما تبقّى من المركز ، وآخر في غرب البلاد وجنوبها وبعض المناطق الحدودية، حيث تتمدد مليشيا الدعم السريع وتفرض رؤيتها السياسية والعسكرية.

حكومة أمر واقع أم شرعنة للتقسيم؟
الخطوة التي أقدمت عليها مليشيا الدعم السريع ليست فقط إعلانًا إداريًا، بل هي إشهار لنية الاستقلال السياسي والوظيفي عن الدولة المركزية. فمنذ شهور، بنتمليشيا الدعم السريع هياكل إدارية محلية، وفرضت أنظمة حُكم على مناطق واسعة من دارفور وولايات كردفان، واليوم تتوّج هذا البناء بإعلان حكومة لها مجلس رئاسي ومجلس وزراء، ورسائل مباشرة للمجتمع الدولي، تطلب الاعتراف بها كـ”سلطة سياسية بديلة”.

لكن هذه الخطوة لا تعني فقط ولادة كيان سياسي جديد، بل هي تعمّق من جراح السودان المنهك أصلًا بالحروب والانقلابات والانهيار الاقتصادي. إنها تنذر بتقسيم فعلي للدولة، ليس فقط جغرافيًا، بل اجتماعيًا وثقافيًا وذهنيًا، وتفتح الأبواب لتدويل أوسع للصراع، بما يشبه النموذج الليبي في أسوأ مراحله، وربما تحوّل السودان إلى ساحة تنازع إقليمي ودولي طويل الأمد.

الإعلان يجعل من محمد حمدان دقلو (حميدتي) رئيسًا لمجلس رئاسي، في تحدٍ مباشر لموقع رئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان. حميدتي الذي جاء من قيادة عصابات الجنجويد التي كانت تقتل وتنهب في غرب السودان، ثم إلى شريك مع نظام الحُكم الذي تتحكم فيه (الحركة الاسلامية) قام بارتكاب جرائم إبادة جماعية، وجرائم حرب في دارفور جعلت رئيس النظام آنذاك عمر البشير مطلوبا للعدالة الدولية، (حميدتي) تمدد في العاصمة عبر مليشياته المسلحة بعد ان دمرت امكانيات البلاد وقتلت الآلاف من المواطنين، اليوم يضع نفسه كـ”رأس دولة بديلة”، مستخدمًا خطابًا سياسيًا أكثر مرونة من خصومه، متحالفًا مع قوى سياسية كانت بالأمس في المعارضة المدنية، وتتبنّى اليوم مشروعًا مزدوجًا: مواجهة (الجيش) وفرض بديل سياسي لكنها في الحقيقة مواجهة مع الشعب السوداني الأعزل.

ما يحدث لا يمكن فصله عن التجربة التاريخية لانفصال الجنوب عام ٢٠١١. حينها، أُعلن الانفصال عبر استفتاء واعتراف دولي، أما اليوم فالسودان يشهد انفصالًا تدريجيًا غير معلن، لكنه قائم على الوقائع: حكومتان، جيشان، عاصمتان فعليتان، ومجتمع دولي يتعامل مع الطرفين كأمر واقع. وإذا استمر هذا المسار، فإن مشهد الدولة السودانية الواحدة لن يبقى سوى ذكرى في خطابات الوحدة والسيادة.
مستقبل قاتم أم فرصة مراجعة جذرية؟
الخطير في هذا الإعلان أنه يأتي وسط تمسك الإسلامويين بمشروعهم الذي أكدت الأيام والسنوات الطويلة فشله بل دوره الكبير والرئيسي في دمار البلاد عسكريا وامنيا واقتصاديا واجتماعيا وصحيا..إلخ، مما أدى إلى غياب وانهيار منظومة الدولة بكل منظوماتها العدلية والقضائية والاقتصادية والصحية، وإذا كان هناك من انقسام بين القوى السياسية هو بسبب سياسة الإسلامويين الذين يتحملون كل ما جرى في السودان، وفي الوقت ذاته، لا تزال أصوات ملايين السودانيين، ممن يعانون الجوع والنزوح والانهيار، تبحث عن بارقة أمل أو أفق نجاة.

إن هذا الانقسام يجب أن يكون ناقوس خطر لكل من يهمه أمر السودان، ودعوة للمجتمع الإقليمي والدولي للضغط نحو تسوية توقف النزيف. أما إذا تُرك السودان لهذه التفاعلات القاتلة، فإن ما ينتظرنا هو نموذج آخر من التفكك الشامل، تتوالد فيه الدويلات من تحت الرماد، وتضيع فيه البوصلة الوطنية.

الخلاصة أن تشكيل حكومة موازية بقيادة حميدتي لا يمكن فهمه بمعزل عن سياق الحرب والانهيار، لكنه أيضًا نقطة تحول مفصلية قد تجر البلاد إلى تقسيم فعلي، إذا لم تتحرك القوى الوطنية والدولية بمسؤولية وجدية، فالسودان اليوم لا يحتاج فقط إلى وقف الحرب، بل إلى إعادة تعريف الدولة، واستعادة العقد الاجتماعي، وبناء سلطة شرعية تستمد قوتها من إرادة الشعب لا من فوهات البنادق.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.