أمد/ في زمن تُجلد فيه الحقيقة على قارعة الانقسام، وتُختطف فيه الكلمات لتغدو أدوات تزييف لا أدوات تحرير، يطلّ علينا بعض الكتّاب الفلسطينيين بخطابات تُروّج للسلام المختزل، والتعايش المُضلِّل، والاستسلام المُقنّع بمسوح الواقعية. كتاب من هواة الظهور في لحظات الضباب لتجسيد هذا النمط من الخطاب الذي لا يُعلي من شأن المأساة، بل يسطّحها، يزيّنها، ويقايضها بمفردات جوفاء من قبيل “وحدة الصف”، و”المشروع الوطني”، دون أن يتجرأ على مواجهة جوهر الأزمة: الاحتلال، وأعوانه، وتجار القضية.
معظم ما يكتب أو يقال لا يتجاوز منشورات علاقات عامة مُغلّفة بمفردات الوطن، لكنها مفصولة عن جغرافيا الدم والركام التي تعيشها غزة اليوم. كما لو أن القضية نزاع داخلي بين أطراف متكافئة، يغضّ الطرف عن مجازر تُرتكب، وعن حصار فُرض ليصير نمط حياة. يستعير خطاب “الواقعية السياسية”، لكنه يفصلها عن شرطها الأخلاقي: الحقيقة، ويفرغها من مضمونها النضالي: المقاومة.
ولأن التبسيط هو سمة الخطاب العاجز، يغلف هؤلاء سردياتهم بلغة تحتفي بالتوازن الكاذب: الاحتلال مجرم، نعم، لكن “الطرفين يتحملان المسؤولية”! هكذا ببساطة يُعاد توزيع الذنب، وتغتسل يد القاتل في مياه “المصالحة”. فلا ذكر للجرائم، ولا تحليل لبنية القمع، ولا مساءلة لمؤسسات السلطة التي تحوّلت إلى أدوات ضبط اجتماعي لا أدوات تحرير وطني.
ما يطرح في بعض المقالات، والأحاديث المتلفزة، يعكس افتقارًا مرعبًا للحسّ التاريخي. كأننا في دولة مستقلة ونناضل من أجل تحسين الأداء الإداري، لا في وطن ينهشه الاستيطان ويُمزقه القصف والحصار والانقسام. هذا الانفصال عن الواقع هو السطحية بعينها، بل هو مشاركة وإن بوعي مشوش في طمس الحقيقة لصالح سرديات لم تعد تخجل من تحالفاتها، ولا من صمتها أمام المجازر.
هذا لا يأتي من باب الاختلاف الفكري فحسب، بل من واجب الحذر من خطابات تزيّن الذبح باسم الوحدة، وتُبرر الانبطاح باسم الواقعية، وتُخدّر الألم الفلسطيني باسم “الوعي الوطني”. فالفعل النضالي ليس شغفًا أو مهنة، إنه موقف. وعندما يتحوّل الموقف إلى ملهاة، يصبح من حقنا بل من واجبنا أن نعرّي هذه اللغة، ونكشف قشور الفكر، ونفضح اختزال القضية في شعارات لا تسمن ولا تغني من كرامة.