بريطانيا بين “التدبُّر” و “فلسفة الارْتِجال”‼️
ترجمة د. عصام محجوب
تحت عنوان “بريطانيا بارِعة في “التدبُّر”، فتخيّل لو أنّ قادتها يعلمون إلى أين يتّجِهون…”، نشرت الصحيفة الرومانية واسعة الانتشار (رومانيا ليبرا) يوم 25 يوليو الجاري مقالًا كتبه تيموثي قارتون آش، وهو مؤرخ ومؤلف ومعلق بريطاني وأستاذ الدراسات الأوروبية بجامعة أكسفورد، وشارك في تأليف تقرير المسح العالمي للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية مع إيفان كراستيف ومارك ليونارد.
كتب تيموثي قارتون آش في مقاله:
نجاح كير ستارمر في إعادة ضبط علاقاته مع أوروبا يكشف عن اختلال استراتيجي عميق. وكداء مُزْمِن، يُبدّد هذا الاختلال الاستراتيجي كل ما تفعله بريطانيا في العالم.
إن الإنجاز الحقيقي لرئيس الوزراء ستارمر إعادة ضبط العلاقات مع أوروبا القارية كما يتّضِح من الزيارات الأخيرة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني فريدريش ميرتس لا يُخفي هذا الاختلال الكامِن، بل يُبْرِزه.
بعد عام 1945، تصوّر ونستون تشرشل أنّ الدور العالمي لبريطانيا يقع عند تقاطُع ثلاث دوائر: الكومنولث البريطاني والإمبراطورية (التي كانت لا تزال قائمة آنذاك)؛ وأوروبا، التي دعم إعادة إعمارها وتوحيدها بعد الحرب بحماس؛ والولايات المتحدة الأمريكية.
ومع تعزيز دول الكومنولث علاقاتها في أماكن أخرى، فقدت الدائرة الأولى أهميتها الاستراتيجية.
وبعد أن انخرطت بريطانيا في سبعينيات القرن الماضي في أكثر أشكال الدائرة الثانية تقدّمًا سياسيًا واقتصاديًا، ألا وهي الاتحاد الأوروبي، انسحبت منه.
ومع النزعة القومية والثورية للرئيس دونالد ترامب، أصبحت الدائرة الثالثة أيضًا على وشك الاختفاء.
إذاً، حدث تراجُع استراتيجي خلال 80 عامًا في الدوائر الثلاثة، لا في اثنتان أو واحدة فقط.
وبدلاً من أنْ تكون بريطانيا عند تقاطُع ثلاث دوائر، أصبحت الآن عالِقة بين ثلاثة أفيال، وقد صرّح مسؤول بريطاني لصحيفة (فاينانشيال تايمز)، واصِفًا مُحاولة ستارمر الإبحار بين القوى الاقتصادية العظمى، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين، قائلاً: “لدينا ثلاثة أفيال في الغرفة، وعلينا فقط أنْ نكون حذرين حتى لا نُداس تحت أرجلها”.
ومثل توني بلير قبل ربع قرن، تتحدّث الحكومة الحالية عن بريطانيا على أنّها “جسر” بين أوروبا وأمريكا. ولكن أيُّ جسرٍ يُمكن أنْ يكون، في حين أنّ المملكة المتحدة خارج الاتحاد الأوروبي، وترامب يُشكِّك في العلاقة عبر الأطلسي برمتها، مُبديًا عداءً خاصًا تجاه الاتحاد الأوروبي؟
الطريقة المنطقية الوحيدة لإنجاز خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كانت أنْ نتحول إلى “سويسرا مُضافة” على شاطئ البحر، أو سنغافورة شمال أوروبا، ونسعى للربح أينما ذهب، بغضِّ النظر عمّا تفعله تلك الدول بجيرانها أو مواطنيها أي دولة بأخلاقيات صناديق المضاربة.
ومن المفارقات أنّ الدولة الأوروبية الأقرب إلى هذه الاستراتيجية السِاخرة “للاصطِفاف المُتعدِّد” هي المجر بقيادة فيكتور أوربان العضو الكامل في الاتحاد الأوروبي. ولكن حتى مُعظم مُؤيدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لمْ يأخذوا هذا النموذج على محمل الجد. فبريطانيا، في نظر مُعظم مواطنيها، لا يُمكنها، ولا ينبغي لها، أنْ تكون كذلك.
مع غزو بوتين الشامِل لأوكرانيا، أُعيد تنشيط غرائز بريطانيا “التشرتشلية”. والآن، نعمل جنبًا إلى جنب مع فرنسا وألمانيا وبولندا للدفاع عن أوكرانيا وأوروبا بأكملها.
وقّع ميرتس وستارمر معاهدة ألمانية بريطانية تُوفّر إطارًا لتعاون مُوسّع. وفي ظلّ حالة عدم اليقين بشأن التزام ترامب بالردع النووي على الجناح الشرقي لحلف الناتو، أسفرت زيارة ماكرون الرسمية إلى لندن عن إعلان غير مسبوق: ستُنسّق القوّتان النوويتان الوحيدتان في أوروبا ردعهما النووي، “ولا يوجد أيّ تهديد خطير لأوروبا لا يستدعي ردّ فعل من الطرفين”.
وهذا يُعيدنا إلى السؤال الاستراتيجي. إذا كُنّا مُستعدّين للمُخاطرة حتى بوجودنا الوطني للدفاع عن أوروبا، ألا يصبح من المنطقي أنْ يكون لنا رأي في كيفية تطوّرها؟ وإذا كانت حكومتكم قد راهنت بكلّ حصّتها المحلية على النموّ الاقتصادي، كما فعل ستارمر، ألا يكون من المنطقيّ التقرُّب من أكبر سوق مُوحّدة في الجوار؟
أمام الوضع الحالي، بريطانيا مُلتزمة تمامًا بالدفاع عن أوروبا، لكنها لا تستفيد من أيّ ميزة اقتصادية في علاقتها مع الاتحاد الأوروبي. وفي الواقع، تدفع ثمنًا باهظًا تنازلات للفرنسيين في مجال مصايد الأسماك، على سبيل المثال لمُجرّد امتياز المُساهمة في أمن الآخرين.
في حديثه إلى النواب البريطانيين، قال ماكرون: “كان الاتحاد الأوروبي أقوى معكم، وكنتم أقوى في الاتحاد الأوروبي”. وهذا صحيح من الناحيتين. لكن من بين الجانبين، خرجت بريطانيا الأضعف. وفي اللغة الدبلوماسية، أصبحت بريطانيا الآن “المُطالِب”، أي الطرف الذي يطالب بشيء ما.
إنّ “الانتصارات” الدبلوماسية الكبيرة الأخيرة، سواءً في إعادة ضبط العلاقات مع الاتحاد الأوروبي أو في اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة، تتمحوّر في الواقع حول إزالة عقبات لمْ تكُن أصلًا موجودة من قبل. والحل الاستراتيجي المنطقي الوحيد طويل الأمد هو عودة بريطانيا إلى الاتحاد الأوروبي، متخليةً عن كبريائها ومتقبلة حقيقة أن شروط العضوية الجديدة ستكون أقل ملاءمة من ذي قبل.
وستجلب الحلول المؤقتة، مثل الاتحاد الجمركي الذي اقترحه الليبراليون الديمقراطيون، بعض الفوائد الاقتصادية المُتواضِعة. لكن العودة الكامِلة إلى الاتحاد الأوروبي وحدها هي التي ستوفِّر الفوائد الاقتصادية واسِعة النِطاق والتأثير السياسي اللازمين لتشكيل مستقبل أوروبا ومن خلالها، العالم. ولا ريب أنّه في غابة مليئة بالفيلة، من الأفضل أنْ تكون فيلًا بنفسك أو على الأقل أنْ تركب أحدها.
يجِب على أي حكومة بريطانية جادة بشأن مصلحتها الوطنية طويلة الأمد، أنْ تضع هذا المنطِق الاستراتيجي في اعتبارها. بيد أنّ السياسة البريطانية بعيدة كل البُعدِ عن ذلك. حتى الليبراليون الديمقراطيون لا يدعمون العودة إلى الاتحاد الأوروبي، والشخص الذي يهيمِن على الخطاب السياسي هو أنجح سياسي مناهض لأوروبا في البلاد: أي نايجل فاراج.
يدرك القادة الأوروبيون هذا الأمر، وهم غير مستعدين “للزواج مرّة أخرى”. ولا تزال جِراح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لمْ تندمِل بعد، والتقاطعات الحالية بين القضايا الأمنية والاقتصادية تخدم مصالحهم أكثر مِمّا تخدم مصالح بريطانيا. وعلى أي حال، لدى الاتحاد الأوروبي ما يكفي من المخاوف الداخلية.
فماذا تبقى إذن؟ فوضوية الإبحار والارتِجال، ولحسن الحظ، البريطانيون بارعون في هذا.
قبل سنوات، قرأت مقالًا في مجلة ألمانية عن بريطانيا تحدّث عن “فلسفة الارتِجال” الفلسفة البريطانية في “التدبّر”. (ألمانيا وحدها مَن تستطيع تحويل الارتِجال إلى فلسفة).
وعلى الرغم من إهماله في السياسة الداخلية، أثبت ستارمر مهارة فائقة في العلاقات الدولية: مع ماكرون، وميرتس، وأورسولا فون دير لاين، ولكن أيضًا مع ترامب وفولوديمير زيلينسكي. لقد أظهر قيادة حقيقية في موضوع أوكرانيا، وأوفى بوعده جعل بريطانيا “جادة مرّة أخرى”.
تتكون حكومته من أشخاص، مثله، يبدون حسني النيّة، وكفؤين، ومحترمين. ورُبّما يكون الأمر مُمِلّاً بعض الشيء لكن نظرة على إدارة ترامب تُظهر أنّ هناك أمورًا أسوأ.
لبريطانيا مشاكلها الخاصة، وكذلك كل دولة أوروبية أخرى. لقد صمدت الديمقراطية البريطانية أمام اختبار ضغوط خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بشكل أفضل من صمود الديمقراطية الأمريكية أمام اختبار ترامب.
اجتماعيًا وثقافيًا، لا يزال هناك الكثير مِمّا يستحِق الإعجاب في التسامُح والإبداع والفكاهة اليومية البريطانية.
لذا، إذا كان بإمكان أي شخص أنْ يجعل الارتِجال ناجِحًا، فهو بريطانيا. وسيكون أداؤها أفضل بكثير إذا كانت لديها فكرة أوضح عن المكان الذي تريد أنْ تكون فيه في العالم بعد عشر سنوات. وكما يقول التلمود: إذا كُنت لا تعرف إلى أين أنت ذاهب، فكل الطُرق تبدو لك جيدة.
بوخارست رومانيا
25 يوليو
المصدر: صحيفة الراكوبة