بثينة تروس


بثينة تروس

تصريحات أحمد هارون، في لقائه مع الصحفي خالد عبد العزيز من وكالة رويترز، والتي احتفى بها إعلام الإخوان المأجور كأنها فتح مبين، ليست سوى محاولة يائسة لتلميع وجه طالما لوثته الخيانة والدم. ما قاله هارون من أنهم (اتخذوا قراراً سياسياً بعدم العودة إلى السلطة إلا عبر صناديق الانتخابات بعد الحرب) لا يعدو أن يكون كذبة سمجة من رجل عُرف بالمراوغة وانعدام المصداقية. كيف يُصدق من لم تمر عليه سنة وهو يتآمر في الخفاء مع علي كرتي، على رئيس الحزب المكلّف، إبراهيم محمود؟ حينها، مثل هارون دور الحريص على (الاستنفار في حرب الكرامة)، مدّعياً أنه في مهمة وطنية لدعم الجيش، وطلب صلاحيات استثنائية، ثم اختفى فجأة إلى القاهرة بحجة العلاج. وبناء على تعليمات إبراهيم محمود، منح أعضاء الحزب هارون الثقة والدعم، ليغدر بهم جميعاً، في مشهد خيانة داخلي لا يقل دناءة عن انقلابهم على شيخهم الترابي (المفاصلة)، لم يكتفِ أحمد هارون بالانقلاب على القيادة، بل قام بحلّ هيكل الحزب وتشكيل ما سمّاها (المنظومة)، مسندًا رئاستها لكرتي ونائبها لنفسه، ضاربًا بعرض الحائط قرارات الشورى وأسس التنظيم. إنها ذات المدرسة التي تُتقن الطعن من الخلف، وتسمي الغدر (خدعة سياسية)، وتبني مجدها الزائف على جثث رفاقها قبل خصومها. ولا عجب، فالحركة الإسلامية في السودان قد انعدمت ضمائرها لا تستحي من تعيين مجرم مطلوب للعدالة الدولية بتهم جرائم حرب كنائبٍ للحزب، رجلٍ أُثبت تورطه في مذابح دارفور وكردفان، واشتهر بندائه الإجرامي (امسح، أكس، قش ما تجيبو حي، ما عايزين أعباء إدارية).
حدثنا نفس الرجل الذي رأى أن قتل الأسير من أبناء ارحامه وعشيرته أولى من تحمل الدولة أعباءً إدارية، عن وطنية زائفة دفعَت شباب الإسلاميين إلى خوض الحرب إلى جانب القوات المسلحة، لا طمعًا ولا مصلحة، بل لحماية الدولة من الاختطاف! عن أي اختطاف يتحدث هذا الرجل؟ أليس حميدتي ومليشيات الدعم السريع كان حليفهم بالأمس القريب؟ أليس هم من أنجبوه، وربّوه؟ ألم يكونوا هم أنفسهم من صفق له، ودافع عنه (حمايتي)، ومهد له الطريق ليصبح قوة موازية للجيش؟ ثم تفرقوا عنه لا لأنهم اكتشفوا خطره على الوطن، بل لأن الشراكة صارت ندية في امتلاك العمارات، والعقارات، وارصدة البنوك، وثروات الفساد، وكلمهم حميدتي (الشلاقي ما خلّى ليهو عميان). قولا واحد لا مفاضلة بين مليشيات الدعم السريع والحركة الإسلامية في نهب ثروات البلاد، فهم يرعون الوحش في السلطة ما دام في خدمتهم، ثم ينعقون بالوطنية والديموقراطية حين يلتهمهم.
تلويح أحمد هارون بعودة الحركة الإسلامية إلى الحكم عبر بوابة الانتخابات ليس سوى استكمال لمسلسل الخداع القديم الذي بدأوه بالانقلاب على النظام الديمقراطي في 1989، عبر الحيلة الشهيرة (اذهب إلى القصر رئيسا، وسأذهب إلى السجن حبيسا) يستخدمون ذات الأسلوب كفزاعة، يشهرونها في وجه الشعب، والأحزاب، والقوى المدنية، مهددين بما يملكون من مال مسروق، وتحكم في أجهزة الأمن، وقدرة على شراء الذمم، وتزوير نتائج الانتخابات متى شاؤوا. الكيزان من أكبر العابثين بالدستور، الذين عطّلوه مرارًا لإبقاء البشير في الحكم، رغم سقوطه سياسيًا واخلاقياً وشعبيًا. أما الانتخابات التي أجروها في 2010 و2015 فليست سوى تمثيليات هزلية، قاطعتها القوى الوطنية، وأدانت نزاهتها منظمات دولية معتبرة، ووصفتها بأنها تفتقر لأي منافسة حقيقية، اسماها المواطنين (انتخابات الخج)!
واليوم، أحمد هارون مطلوب المحكمة الجنائية الدولية يهدد كل من يفكر في منافسة الكيزان في الحكم صراحة، معلنا أن لديهم من السلاح والمليشيات ما يفوق من يحاربونهم، ومعترفاً أن القرار داخل الحزب هو من يحدد شكل العلاقة مع المؤسسة العسكرية، وأنهم كعادتهم، يطمئنون قادة الجيش على بقائهم في السلطة، ويشبعون أطماع الجنرال البرهان بأنه سوف يكون حارسا للفترة الانتقالية وما بعدها، تمامًا كما عبر الجنرال ياسر العطا بقوله السابق (لن يكون بمقدور المدنيين إقامة حكمهم حتى بعد انتهاء الحرب، لأن الجيش لن يتنازل عن سلطاته خلال الفترة الانتقالية، وسيظل البرهان على رأس الدولة لثلاث أو أربع دورات بعد الانتخابات).. هكذا يدير الكيزان لعبتهم بذكاء الفتنة والاحتيال السياسي الذي وُلد معهم ولم يفارقهم. كما لم تغب عنهم لحظة فكرة إعادة ترتيب المسرح للعودة من الباب الخلفي، بإيهام العسكريين أنهم حماة الدولة، وتخويف الشعب من البدائل المدنية، (قحاطة) (كوزوفوبيا) (عملاء)! ومزيد من صناعة الفوضى التي يقتاتون عليها، والشاهد من تاريخهم الطويل، أن الإخوان المسلمين في السودان لم يفشلوا يومًا في تضليل الرأي العام بالهوس الديني، ولا في زرع الفتنة بين مكونات القوى المدنية، حتى هزمتهم ثورة ديسمبر بشعار (أي كوز ندوسه دوس وما بنخاف). لكنهم حقاَ أتقنوا إضعاف ثقة الشارع في كل مشروع ديمقراطي أو دعوة للسلام، وما مشروع حكومة الأمل، ووزارة كامل إدريس، إلا أكبر بوابة لعودتهم، مموّهة بعبارات براقة تخفي تحتها ذات الوجوه وذات الأجندة.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.