علاء خيراوي
قال عبد الفتاح البرهان في إحد إطلالاته الإعلامية “أتمنى أن يذكرني التاريخ قائدًا انتصر في وجه أكبر مؤامرة دولية ضد السودان”
عبارة كهذه لا تُقال في الفراغ، بل تصدر عن عقل سياسي مأزوم يحاول عبثًا أن يستنطق التاريخ لصالحه، في وقتٍ لم يعد فيه للتمنيات مكانٌ في ذاكرة أمةٍ نازفة
فمن المؤسف أن الرجل الذي كان على رأس المؤسسة التي أجهضت الانتقال الديمقراطي، وقادت البلاد إلى أتون الفوضى، يتمنّى أن يُخلّد كمنقذ، لا كمتسبّب في الانهيار
المؤامرة التي يتحدث عنها البرهان، لم تأتِ من وراء البحار، بل خرجت من بين يديه. بدأت لحظة قرر أن الانقلاب على الوثيقة الدستورية أسهل من التفاهم مع القوى المدنية، وأن تسليم البلد إلى المجهول أقل كلفة من التواضع لمطالب الشعب. فلم تكن المؤامرة دولية كما يدّعي، بل محلية الصنع، نفّذها المجلس العسكري بقيادته، حين انقلب على الحاضنة المدنية، وخوّن لجان المقاومة، وتواطأ مع شبكات النظام البائد من خلف الستار
وإذا ما نظرنا في سجلّ البرهان، سنجد أن كل ملف قد استحال إلى مأساة. فمن جهة الأمن، أشعل حربًا أهلية بين الجيش والدعم السريع، فَقَد خلالها السيطرة على العاصمة، وخسر المنشآت الحيوية، ووجد نفسه يحكم من مدينة ساحلية بعيدة بينما الخرطوم تغرق في الدماء. ولم يُفتح أي مسار جاد لوقف القتال أو لحماية المدنيين، بل ظلّ الرجل يكرر شعارات “الحسم القريب” بينما يتساقط الناس يوميًا تحت الأنقاض
أما مشروع الثورة، فكان أول ما تم ذبحه تحت راية العسكر. فبدلًا من التأسيس لانتقال مدني حقيقي، اختار البرهان طريق الغدر السياسي، وفضّ الشراكة مع القوى الثورية، وسعى لتسويق نفسه إقليميًا كضامن للاستقرار، وهو من أشعل الحرائق بيديه
ولعلّ الكارثة الاقتصادية التي لحقت بالسودان في عهده، لم تكن إلا نتيجة طبيعية لحكم لا يؤمن بالتخطيط ولا بالكفاءة. انهار الجنيه، وانهارت البنوك، وهربت رؤوس الأموال، وتحولت الدولة إلى ساحة للجبايات والابتزاز، وبدلاً من الرؤية، كانت الحرب وحدها هي السياسة
ثم جاءت المأساة الإنسانية الكبرى، حيث شُرّد الملايين، ونُهبت المدن، واغتُصبت النساء، وتقطّعت سبل الحياة. وما زاد الفاجعة فداحة، أن كل هذه الكوارث لم تُقابل باعتراف أو اعتذار، بل بنفي وإنكار وتكرار للأسطوانة الممجوجة عن “قوى خارجية” و”عملاء الداخل”، كأن الخراب قد نزل على السودان من كوكب آخر
لم يُجرِ البرهان أي إصلاح، ولا محاسبة، ولا مساءلة، بل تفرّغ للقاءات الخارجية، يحوم بين العواصم، حاملاً أوراقًا بلا مضمون، وخطابًا بلا صدقية
وحين يسأل الرجل أن يذكره التاريخ، فإننا نجيبه: نعم، سيذكرك التاريخ. لكنه لن يراك بطلاً. بل سيكتبك جنرالًا فَقَد العاصمة خلال أيام، وهدم الثورة التي مات لأجلها الشباب، وأدار حربًا عبثية دمّرت ما تبقى من البلاد. سيذكرك كمن قايض مستقبل أمةٍ كاملة بمنصبه، وكجنرال نصّب نفسه بديلاً عن الشعب، وممثّلًا عن وطن لا يثق به
لا أحد يحق له أن يُملي على التاريخ سرديته، فالتاريخ لا يُكتب بالرغبات ولا بالبيانات العسكرية، بل يُكتب بدماء الشهداء، بأنين اللاجئين، وبكاء الأمهات، وشهادات الأحياء تحت النار
وإن كانت للشعوب ذاكرة، فإن ذاكرة السودانيين لن تُجمّل صورة من سلّمهم للفوضى، ووقف يتأمّل الحريق متمنيًا المجد. فما بين الأمنيات والوقائع مسافة، وما بين ادعاء البطولة وسجلات الدم فرق لا يُمحى
من أراد أن يكون في سجلّ العظماء، فليصنع عظَمة، لا أن يطلبها كعطية من ذاكرة التاريخ. والتاريخ، حين يكتب، لا يُجامل.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة