أنماط طرائق التفكير السوداني (١٦)
بقلم: عوض الكريم فضل المولى وحسن عبد الرضي
الخبراء الاستراتيجيون في السودان وضعف المردود الإيجابي لخبراتهم
يُعَدّ السودان واحدًا من الدول التي بدأت العملية التعليمية مبكرًا، متفوقًا على كثير من دول الجوار الإفريقي وبعض الدول العربية. بل ساهم السودانيون في تعليم ونهضة العديد من تلك الدول، لا سيما في مجالات الأدب، الفنون، العمارة، الطب، التمريض، الصناعة، والتعليم.
ويضم السودان عددًا كبيرًا من العلماء والخبراء الاستراتيجيين، خصوصًا في المجالات العسكرية، التي فتحت لها الكلية الحربية السودانية أبوابها بعد حركة التحرر من الاستعمار والحروب العربية المختلفة. كما كانت جامعة الخرطوم منارة تعليمية يقصدها الطلاب من مختلف الدول، خاصة في العلوم السياسية.
غير أن المفارقة تكمن في ضعف المردود الفعلي لهؤلاء الخبراء داخل البلاد، في الآونة الأخيرة، حيث أصبح تأثيرهم في بعض الأحيان محدودًا، وأحيانًا أخرى معدومًا تمامًا. ومثلت ثورة ديسمبر نموذجًا صارخًا على ذلك، إذ قدّم خبراء سودانيون في الاقتصاد، الصحة، والتعليم خبراتهم من دول المهجر، لكن التنافس السياسي الأناني وغير الشريف أعاق تحقيق التنمية المنشودة، بإقحام عناصر عديمة الموهبة ممّن يُسمّون بالخبراء الاستراتيجيين.
وأحد أهم أسباب هذا التناقض هو تسييس العلوم وتأطيرها أيديولوجيًا، مما أدى إلى أن تكون المعلومات التي يحملها بعض الخبراء سطحية أو غير مجدية. وهنا يبرز التساؤل: هل تكمن المشكلة في أزمة التعليم الأكاديمي وضعف معايير التأهيل؟
يعود جزء كبير من المشكلة إلى ضعف التعليم الأكاديمي الذي تلقاه هؤلاء الخبراء، إذ تعاني المؤسسات التعليمية السودانية من نقص حاد في جودة المناهج، وضعف في قدرات الكوادر التعليمية، منذ هيمنة الحركة الإسلامية وكوادرها على الجامعات ومراكز البحث العلمي، وتسييس وأدلجة العملية التعليمية تحت ذريعة “التأصيل الإسلامي”. وقد أدى ذلك إلى تخريج أجيال من الخبراء يفتقرون إلى أبسط مقومات التحليل الاستراتيجي العميق والمنهجي.
كما أدت المحسوبية والتسييس في التعيينات إلى خلق كثير من المشكلات الجوهرية التي ساهمت في ضعف المردود الإيجابي للخبراء الاستراتيجيين. إذ تُمنح المناصب داخل مؤسسات الدولة، والجيش، والقوى النظامية بناءً على الولاءات السياسية والانتماءات الحزبية، لا على أساس الكفاءة والمؤهلات. مما أدى إلى إقصاء الكفاءات الحقيقية لصالح أفراد يفتقرون إلى الخبرة والقدرة الفعلية على إدارة الأزمات.
وساهمت كذلك السياسة الإقصائية التي انتهجتها الحركات الأيديولوجية، لا سيما في عهد “الإخوان المسلمين” وجماعة الإسلام السياسي، في تهميش الكفاءات واستبدالها بعناصر موالية، خاصة في الجيش، والشرطة، والجامعات، ومراكز البحث العلمي. فقد تم تهميش الخبراء المستقلين واستبدالهم بشخصيات تابعة للتنظيم، حتى وإن كانت تفتقر إلى أدنى مستويات التأهيل والكفاءة. وأدى ذلك إلى ضعف مؤسسي وانعدام القدرة على التخطيط والتنفيذ الفعّال.
وقد أصبحت البلاد تحصد النتائج الكارثية والتبعات الخطيرة لتلك الظاهرة، التي أنتجت واقعًا مخجلًا يتجلى في التدهور العام في أداء جميع المؤسسات، بما فيها الجيش والقوى النظامية الأخرى. فلم يعد الجيش السوداني قادرًا على أداء مهامه بفعالية، نتيجة تدخله في مجالات الاقتصاد والسياسة والتعدين، وهي مهام لم تُوكل إليه قانونيًا ولا دستوريًا.
أفرزت هذه الظاهرة واقعًا مخجلًا تمثل في:
تدهور أداء الجيش والقوى النظامية: نتيجة فقدان القدرة على أداء المهام بفعالية بسبب الانشغال بالسياسة والاقتصاد والتعيينات، مما انعكس في الإخفاقات المتكررة في مواجهة التحديات الأمنية والسياسية والاقتصادية.
ضعف البحث العلمي والمؤسسات الأكاديمية: حيث أصبحت الجامعات ومراكز البحث عاجزة عن تقديم أي إسهام حقيقي في التنمية أو في حل الأزمات الوطنية.
انعدام الرؤية الاستراتيجية: إذ تُتخذ القرارات بناءً على الولاءات السياسية، لا على أسس علمية وتحليلية موضوعية.
ولحل هذه الأزمة، لا بد من تبني إصلاحات جوهرية تشمل:
إعادة هيكلة المؤسسات التعليمية والعسكرية وفق معايير الكفاءة والجدارة والحوكمة القانونية.
إنهاء المحاصصة السياسية في التعيينات لضمان وصول الكفاءات الحقيقية إلى مواقع اتخاذ القرار.
تعزيز ثقافة البحث العلمي والفكر النقدي من خلال تطوير المناهج وتأهيل الكوادر التعليمية.
فبدون هذه الإصلاحات، سيبقى السودان أسيرًا لنخبة من “الخبراء” الذين لا ينتجون سوى المزيد من الأزمات والنتائج الكارثية.
المصدر: صحيفة التغيير