د. موسى الأمين حمودة

منذ استقلال السودان في عام 1956، ظل الحكم أسيرًا لعقلية المركز، عقلية تنظر إلى الدولة كغنيمة تتقاسمها نخب محددة، وتُدار بمنطق الإقصاء لا المشاركة، والمحاباة لا العدالة. وبدل أن يكون الاستقلال بداية لبناء وطن جامع، تحوّل إلى مشروع احتكار سياسي وهيمنة ثقافية واقتصادية، دفعت ثمنه مناطق واسعة من السودان، خُصص لها موقع ثابت في الهامش، خارج حسابات التنمية، وخارج منظومة الحقوق.

لقد تم منع مجتمعات بعينها من أبسط حقوقها الدستورية، وعلى رأسها الحق في التعليم والخدمات. يُستخرج البترول في كردفان ليصب في شمال الخرطوم. يساق ابناء الهامش الى الحروب ذمراً ويموتون بالالاف في حروب عبثية وتغفل الدولة عن تقديم أبسط الخدمات لأسر الشهداء في التعليم والحياة الكريمة بل سُرقت الموارد من دارفور وكردفان والنيل الأزرق ليتم بناء مؤسسات الدولة والشركات الاستراتيجية في الخرطوم أو الشمال. وتُركت غالب مناطق الهامش للجهل والتخلف ولم تُخصص لها الموارد ولا البنية التحتية الكفيلة بتحقيق الحد الأدنى من الحياة الكريمة. وبقي المركز يُعيد إنتاج النخب نفسها، ويُعيد تدوير الامتيازات، فيما تُركت مناطق بأكملها لتواجه الفقر، والجهل، والعزلة، بل والحروب المتعاقبة التي لم تكن في جوهرها سوى تعبيرات عن فشل مشروع الدولة المركزية.

من رحم هذا الظلم التأريخي، وكنتيجة مباشرة لفشل الدولة في خلق شعور بالمواطنة المتساوية، برزت الحاجة إلى حكومة تأسيس، ليست حكومة مؤقتة لتسيير الأعمال، بل حكومة لإعادة تعريف الدولة نفسها، ولمعالجة الجرح العميق الذي خلفته عقود التهميش والإقصاء. حكومة تؤمن بأن السودان لن يُبنى من الخرطوم وحدها، وأن العدالة لا تُجزأ، وأن لا سلام مستدام دون إنصاف حقيقي للهامش الذي طال صبره.

حكومة التأسيس هي فرصة تاريخية، ليس فقط لتجاوز الأزمة، بل لصياغة عقد وطني جديد، تتساوى فيه الحقوق، وتُعاد فيه هيكلة الدولة بما يضمن ألا يكون الانتماء الجهوي أو القبلي هو الطريق إلى السلطة أو الامتياز. إنها لحظة فاصلة، لا تحتمل أنصاف الحلول، ولا تجميل الوجه القبيح لدولة المركز.

جاءت حكومة التأسيس على أسس قومية عادلة، وفتح الطريق نحو سودان جديد: سودان لا تتحكم فيه القبيلة، ولا تُديره النخبة بمعزل عن شعبها، بل تحكمه مؤسسات وطنية تحمي الحقوق، وتوزّع الثروة بعدالة، وتُمثل كل مكوناته تمثيلًا حقيقيًا.

ستنجح حكومة التأسيس، خلال وقت وجيز، في تحقيق ما عجزت عنه النخب السياسية التقليدية طوال تاريخ السودان المستقل، إذ تمكنت لأول مرة من كسر الحواجز النفسية والسياسية بين المكونات السودانية، ومن فتح نقاشات حقيقية وجريئة حول القضايا التي طالما تهربت منها الأنظمة المتعاقبة. لقد تبنت الحكومة بكل عزم ووضوح مسألة علاقة الدين بالدولة، وعلاقة الدولة بالهوية، باعتبارها مفاتيح جوهرية لبناء عقد اجتماعي جديد يحترم التعدد، ويضمن الحريات، ويصون كرامة الجميع دون إقصاء ديني أو ثقافي.

وفي خطوة غير مسبوقة، نجحت مشاورات تحالف حكومة التأسيس في استيعاب القائد عبد العزيز الحلو، رئيس الحركة الشعبية شمال، الذي لطالما قاتل نحو ثلاثة عقود من الزمان عن موقفه من علمانية الدولة، وعن ضرورة أن تستند الدولة السودانية إلى مبادئ فوق دستورية تضمن المساواة، وتحكم الجميع بقواعد العدالة والقانون، لا بوصاية دينية أو أيديولوجية. إن هذا الاختراق السياسي والفكري، لم يكن ليتم في ظل العقلية القديمة التي تتهرب من المواجهة الحقيقية مع جذور الأزمة، وتكتفي بالمجاملات الشكلية أو الترضيات اللحظية.

ولعل ابن البدو الذي نشأ في الهامش وأسس قوات الدعم السريع، الفريق أول محمد حمدان دقلو، كان تجسيدًا صارخًا لهذا التحوّل في ميزان القوة والتأثير، إذ نجح في ما فشلت فيه كثير من النخب المتعلمة والمترفة في الخرطوم. وبحنكته السياسية ورؤية قومية متقدمة، استطاع أن يبني قوة عسكرية فاعلة من الهامش، تتجاوز الانتماء القبلي الضيق، وتفرض معادلة جديدة في المشهد الوطني.
وقد برز هذا الدور جليًا في موقفه خلال حرب الــ15 أبريل 2023، عندما اندلع الصراع المسلح بعد محاولة انقلاب عسكري، خُطط له داخل المؤسسة العسكرية من قبل عناصر محسوبة على التيار الإسلامي، بهدف الانقضاض على الثورة السودانية والقضاء على قوات الدعم السريع ونسف ما تحقق من مطالب ثورة الشعب السوداني في الحرية والعدالة والعيش الكريم.

وقفت قوات الدعم السريع حينها لا بوصفها مجرد مليشيا، بل كقوة تصدّت بشراسة لمحاولة الالتفاف على مكتسبات الثورة، ورفعت شعار الدولة المدنية وخروج العسكر من الحياة السياسية، في لحظة فارقة كان يُنتظر فيها من النخب التقليدية أن تدافع عن هذه المبادئ، لكنها آثرت الصمت أو التواطؤ. وهكذا، أصبح الحراك السياسي في السودان لا يُفهم من منظور النخبة وحدها، بل من منظور التغيير القادم من الهامش، ومن قدرة أبناء الأطراف على قلب الطاولة على مركز الهيمنة والاستعلاء السياسي والتأريخي.

لقد أثبت التاريخ أن المشاريع المبنية على القبلية، أو المحاصصات الجهوية، لا تُنتج إلا دولًا مشلولة، وعاجزة عن النهوض. أما حين تسمو القومية على القبلية، فإن مشروع الوطن يبدأ في التشكل. القومية هنا ليست تعصبًا، بل هوية سياسية جامعة تتجاوز خطوط الدم والانتماء الضيق، لتصوغ كيانًا يتّسع للجميع.

نحن بحاجة إلى حكومة تأسيس لا تقف عند حدود الجغرافيا أو القبيلة، بل تنظر إلى الوطن ككل، وإلى المواطن كفرد حر متساوٍ في الحقوق والواجبات. حكومة تؤمن أن السلم لا يُبنى بالمحاصصة، بل بالعدالة، وأن السلام لا يُصان بالترضيات القبلية، بل بالمؤسسات التي تُحاسب الجميع، وتحترم الجميع.

التأسيس الحقيقي يبدأ حين نكسر هذا القيد، وحين نُعلّي من شأن الانتماء للوطن فوق كل انتماء آخر. السودان لا يمكن أن يُدار كإقطاعية، ولا كشبكة من التحالفات القبلية المؤقتة، بل كدولة حديثة، مدنية، ديمقراطية، تُؤمن أن كل سوداني هو مواطن أولًا، لا تابعًا لقبيلة أو منطقة.
وحينها فقط، تصبح القومية هي ملاذ الجميع، وتغدو حكومة التأسيس بوابة العبور نحو سودان جديد، عادل، موحد، ومستقبل لا يعيد أخطاء الماضي، بل يتجاوزها بشجاعة ومسؤولية.

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.