د. الشفيع خضر سعيد
لاتزال صرخات الألم تشقّ سماءَ الوطن: أوقفوا الحرب… أوقفوا المهزلة! وكلّما لاحت بارقةُ أملٍ في الأفق البعيد، تشرئبّ أعناقُ الحلمِ نحوها، وتتهامس الأرواحُ المكلومةُ بالدعاء، علّ الأمل يتحقق ويمحوَ بمدادِ السلامِ سطورَ العنفِ والخراب. كذا تتجه نظرات السودانيين المملوءة بالرجاء إلى اجتماعات واشنطن التي تضم وزراء خارجية الولايات المتحدة ومصر والسعودية والإمارات، والمتوقع أن تبدأ في نهاية الشهر الجاري.
صحيح أن السودانيين يودون أن يتوقف القتال اليوم قبل الغد وبأي طريقة، ويتمنون أن يساعدهم المجتمع الدولي في ذلك، لكنهم أيضا يخشون أن يُلدغوا من الجحر مرتين! ففي المرة الأولى، إبان عهد الإنقاذ، استقبل الشعب السوداني بفرح يشوبه القلق، فكرة التدخل الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لحل الأزمة في البلاد، خاصة وأن «الروح بلغت الحلقوم». وكان يظن خيرا في الحلول المطروحة من علماء ومفكري المجتمع الدولي وخبرائه في السياسة وفض النزاعات، والتي ظلت تبشر بأنها ستوقف الحرب وتحقق التحول الديمقراطي وتحفظ وحدة السودان. لكن، كانت النتيجة الصادمة أن الحرب لم تتوقف إلا جزئيا فقط، ومؤقتا، في جنوب البلاد بينما أوارها ظل مستعرا في دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، أما التحول الديمقراطي فغاب عن المشهد، بينما تصدعت وحدة السودان بانفصال جمهورية جنوب السودان، وتفكك البلاد إلى دولتين ما لبث أن اندلعت بينهما حرب دامية ضروس. ثم توالت حلول ومبادرات المجتمع الدولي، المعلبة والعابرة للقارات، دون أن تمنع انفجار الحرب المدمرة في 15 أبريل/نيسان 2023.
وفي الحقيقة، فإن الوصفات العلاجية التي يقدمها المجتمع الدولي لعلاج الأزمات المتفجرة في دول العالم الثالث، تظل دائما حلولا جزئية ومؤقتة وهشة، تخاطب الظاهر لا الجوهر، بحيث أن تشظيات الأزمة في هذه البلدان تظل كما هي، محدثة انفجارات داوية من حين لآخر. هكذا تقول تجارب سيراليون وساحل العاج ومالي وأفريقيا الوسطى والعراق وليبيا وإثيوبيا…الخ. هناك عامل آخر يتمثل في شروع إدارة الرئيس ترامب في إعادة ضبط السياسة الخارجية الأمريكية لصالح التركيز على الأمن والشراكات الاقتصادية خاصة في مجال المعادن النادرة، مقابل تقليص الدعم الأمريكي في مجالات المعونات الإنسانية ودعم حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية والتغيير المناخي. وقد ظهر ذلك جليا في رعاية واشنطن للاتفاق بين الكونغو ورواندا، ولقاءات ترامب مع القادة الأفارقة الخمسة، وقبل ذلك لقائه مع الرئيس الأوكراني. اتفاق الكونغو رواندا يقايض خفض التوترات العسكرية في شرق الكونغو بمنح الشركات الأمريكية حق الوصول غير المشروط إلى ثروات البلاد المعدنية، خاصة الليثيوم والكوبالت، وهي موارد تُقدّر قيمتها بأكثر من تريليوني دولار.
وفي هذا الصدد، كتب الأستاذ الفاتح محمد في موقع ألترا سودان بتاريخ الفاتح من يوليو/تموز الجاري أن «الملامح الأولية لما قد يصبح «الصفقة السودانية» بدأت تظهر فعليًا: تثبيت للأمر الواقع العسكري، تهميش للفاعلين المدنيين، وضمانات غير معلنة لحلفاء واشنطن الإقليميين لحماية مصالحهم الاقتصادية والأمنية، حتى وإن كانوا أطرافًا مساهمة في تأجيج الحرب.
والأخطر من ذلك، أن الولايات المتحدة لا تُبدي حتى الآن رغبة حقيقية في تفكيك بنية الميليشيات التي تشكّل الخطر الأكبر على مستقبل السودان، بل تتعامل مع وجودها كأمر واقع يمكن هندسة تسوية سياسية على أساسه.
هذا التجاهل لا يمكن فهمه إلا كتعبير عن تفضيل موازين القوى على مبدأ العدالة، وعن استعداد لقبول تسوية تُبقي أدوات العنف قائمة، ما دامت تحقّق قدرًا من الاستقرار القابل للاستثمار ولو جاء ذلك على حساب سيادة الدول وحقوق شعوبها». بالطبع، وكان أشار الأستاذ الفاتح، فإن الفوارق كبيرة بين الأزمة السودانية وما يجري في الكونغو ورواندا. والشعب السوداني، بحكم عوامل عديدة، منها تجاربه الغنية التي دفع فيها أبناؤه الثمن بأرواحهم، لا يزال يؤمن بمشروع وطني ينبني على العدالة والمساءلة واستعادة السيادة، لا على تسويات سلطوية تعيد إنتاج الأزمة.
حديثنا أعلاه لا يعني أي فتور أو تردد من جانبنا إزاء التحرك الأمريكي تجاه الأزمة السودانية، بل على العكس نحن أكثر حماسا تجاهه على أمل أن يضع حدا لنزيف الدم في البلاد، ويمنع تجدد القتال إذا توقف، على ألا يأتي على حساب مصالح شعبنا وسيادتنا الوطنية، وألا يكافئ مشعلي فتيل الحرب ومرتكبي الجرائم. وتحديدا، نحن نريد من التوجه الأمريكي تجاه السودان العمل على: تفجير طاقة المجتمع الدولي وتفعيل تدابيره العملية لمنع تدفق الأسلحة ووقود الحرب إلى السودان، وألا يكون ذلك رهينا لتضارب المصالح الذي يدفع الدول الكبرى، ومن بينها أمريكا، لإغماض أعينها.
الدراسة الجدية لاحتمال فرض وقف إطلاق النار الفني والحفاظ عليه، وذلك وفق الآليات المعمول بها إقليميا ودوليا وفي إطار القانون الدولي. إعادة النظر في المناهج المعمول بها حتى الآن، والتي لم تحقق النجاحات المرجوة، فيما يتعلق بترتيبات المساعدات الإنسانية وحماية المحتاجين في السودان منذ اندلاع الحرب، وتبني أساليب جديدة، خارج الصندوق، أكثر فعالية في تلبية احتياجات الناس ومنع استغلالها من أي طرف، مثل ابتداع طرق جديدة للتسليم عبر الحدود، والتفتيش المشترك للمساعدات من قبل أطراف النزاع والداعمين الدوليين، ودعم أنشطة غرف الطوارئ، واستخدام التحويلات النقدية الإلكترونية..ا لخ. استخدام الإطار القانوني الدولي (مسؤولية الحماية) لتفعيل آليات حماية السكان المدنيين وحماية الممرات لضمان وصول المساعدات الإنسانية للمجموعات المدنية، وكذلك اتخاذ كل الإجراءات الوقائية لمنع حدوث إبادة جماعية وأي انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بما في ذلك العنف الجنسي ضد النساء. تبني استراتيجية شاملة تعزز انخراط القوى المدنية السودانية، بتعدد تكتلاتها وليس حصرا على كتلة بعينها، في عملية سياسية شاملة ذات طبيعة تأسيسية للدولة السودانية، من تصميم وإدارة وقيادة القوى المدنية السودانية. وعَسَى أَنْ تَحْمِلَ الأيامُ القادمةُ بُشريات تلقي ظلالَ الوئامِ على ديارٍ أنهكها القتال. ماهو رأيك في هذا المقال ؟
مداميك
المصدر: صحيفة الراكوبة