د. أيمن بشرى
سلطة للساق ولا مال للخناق (مثل سوداني: معناه أن السلطة وإن كانت قليلة فهي أفضل من الثروة وإن كانت كثيرة).
الإنسان لا يصارع على السلطة فقط لأنها تمنحه موقعًا للتحكم، بل لأنها أيضًا تلامس غريزة ضاربة في عمق اللاوعي البشري: غريزة البقاء والتفوق والاستمرار. حينما تفكك العلاقة بين الإنسان والسلطة من زوايا متعددة بيولوجية، نفسية، واجتماعية ربما نتمكن من فهم لماذا “يختصم الخلق جرّاها”.
تّتخذ كثير من القرارات السياسية دون إلمام كافٍ بأثيرات تلكم القرارات على مختلف المواطنين وعلى أجيال قادمة. تشكّل قضية تقسيم السلطة في السودان أحد أهم القضايا التي لا يمكن أن تستقر فيها البلاد بدون حلها. قد يقود التفكير القويم على أن تطبيق قيمتي العدالة والمساواة قد يؤدي الى إنتاج سياسات سليمة، ولكن لماذا تمثل السلطة اشكالية من الأساس.
في مقالي الموسوم (تصوّرلقسمة السلطة المركزية المنشور بعدة صحف الكترونية) https://www.medameek.com/?p=168946
لم يكن ثمة مجال للتطرق لكل النواحي التي تجعل لقسمة السلطة المركزية أهمية قصوى للدولة والمجتمعات التي تعيش بداخلها. ردود البعض على المقال في الوسائط المختلفة يوضح أهمية التطرق لنواحٍ ربما لم يعرها الناس اهتماماً رغم أهميتها، إذ يتساءل البعض بإلحاح عن سبب وجدوى الصراع على السلطة بالأساس.
في هذا المقال سنبحر معاً في مجاهيل المخ والنفس والمجتمع البشري لنتعرف على جوانب تمثل مرتكزات أساسية لفهم علاقة الإنسان بالسلطة، لكل من يريد الاشتغال بالسياسة أو بوضع سياسات واقعية قابلة للاستدامة.
١ النواحي التطويرية:
التكاثر هو أحد الصفات التي تميز الكائنات الحية. والقدرة على التكاثر هي شرط أساسي للتمييز بين الكائنات الحية وغيرها. فالكائن الحي (كل كائن حي)، يعمل على الحفاظ على جيناته وذلك بطريقتين، أولاهما هي الحفاظ على حياته نفسها وثانيهما هو نقل جيناته لأجيال لاحقة، اي إنتاج ذرية تحمل هذه الجينات. وفي سعيه لتحقيق هاتين الغايتين، يقوم بسلوك قد يكون بوعي أحيانا ولكنه غالبا ما يكون في اللا وعي (unconsciously) يؤدي في النهاية الى الغاية المرجوة.
عملية نقل الجينات لأجيال قادمة تتطلب مرحلتين، الاولى هي الحصول على شريك جنسي والأخرى هي المحافظة على هذه الاجيال حتى تتمكن من نقل جيناتها لًِأجيال أُخرى.
١.١ الحصول على شريك:
عاطفياً يبحثُ الشخص عن حبيب، ودينياً يبحثُ المرءُ عن زوج، أما بيولوجيا فيبحث الرجل عن “بويضة” تُنتج له أبناء وبنات يحملون جيناته.
في فصيلةِ الثدييات التي ينتمي لها الأنسان تُعتبر البويضات عُملة نادرة بالرغم من أن عدد النساء والرجال قد يكون متقارباً، فالمرأة تنتج بويضة واحدة في الشهر في المتوسط وهذه البويضة تكون قابلة للتلقيح لفترة قصيرة لا تتعدى بضعة أيام. بينما ينتج الرجل بلايين الحيوانات المنوية في اليوم الواحد. هذا الأمر يجعل المرأة نفسها عملة نادرة، ويجعل استراتيجيتها في اختيار الشريك او الزوج مختلفة عن الرجل. ولأن الإنسان كائن بصري (أي يعتمد على حاسة البصر في عملية الانجذاب الجنسي)، فإن أحد أهم استراتيجيات المرأة لجذب الرجل تدور حول المظهر الخارجي، وهذا يفسر لماذا تعتبر مستحضرات التجميل من أنجح الصناعات والتجارات، عبر كافة المجتمعات والاعمار. أما فيما يخص اختيار الشريك، فتميل المرأة لاختيار الرجل ذو الوضع الاجتماعي المساوي او أعلى منها. أما في مجتمعات الكفاف (المجتمعات الفقيرة)، فانها تميل للرجل الذي يملك الموارد، وهذا يفسر لماذا في مجتمعنا قد تختار فتاة رجلا ثرياً ولكنه متزوج ربما بأكثر من واحدة بدلاً عن رجل غير متزوج من قبل ولكنه لا يملك موراداً. في ظروف طبيعية لا تخضع للضغط الإجتماعي أو ندرة الموارد في المجتمع، فأن المرأة قد تميل للرجل الذي التكوين الجسدي الرياضي والقوي، فهذا يعني جودة الجينات، وربما كانت هناك ميزات تطورية راسخة في اللا وعي. فعندما كان الصيد هو مصدر الغذاء الرئيسي عند البشر قبل آلاف السنين (تحديداً قبل الثورة الزراعية قبل عشرة آلاف سنة)، كان الرجل القوي والرياضي البنية هو الأكثر حظاً في الحصول على الصيد. كما أن المرأة تنجذب، وبالتالي تختار الرجل الذي يختلف تكوين الجهاز المناعي عنده عنها لأن ذلك يؤدي الي زيادة حظ أبنائها في البقاء. تتعرف المرأة على هذا الرجل المختلف (مناعيا) عنها عن طريق حاسة الشم. تتأثر هذه الخاصية بأيام الدورة الشهرية وعما إذا كانت المرأة تستعمل حبوب منع الحمل.
أما استراتيجية الرجل فتدور أهمها حول إظهار القدرة الاقتصادية (الموارد). المكانة الاجتماعية والسلطة، وهي أشياء شديدة الارتباط ببعضها. وهي أشياء تفضّلها المرأة الآن لضغوط او تأقلم اجتماعي (social conditioning)، ولكنها في الواقع مرتبطة بالرغبة الدفينة في إيجاد شريك يستطيع توفير الغذاء والأمن لصغارها.
والواقع أن نجاح الرجل الإنجابي (reproductive success) مرتبط بالوضع الاقتصادي والاجتماعي، بخلاف المرأة.
١.٢: المحافظة على الأجيال القادمة:
قد يفهم من النقطة أعلاه تلقائياً أن الميزات الأساسية عند الرجل التي تجعل المرأة تختاره شريكاً هو قدرته على حماية ذريتها، بتوفير الغذاء والأمن ويمكن أن نضيف إليها المكانة الإجتماعية حتى تتمكن من مواصلة الحياة والنجاح الإنجابي. هذه العوامل هي توفر الموارد والسلطة.
٢. النواحي البيولوجية العصبية «Neurobiological» والسلطة:
يوجد في الدماغ نظام للتحفيز (brain reward systen) وهو شبكة معقدة من الخلايا العصبية المترابطة التي تعمل على تحفيز السلوكيات التي تزيد من فرصة بقاء الشخص (survival). المادة الكيميائية المسئولة في هذا النظام التحفيزي هي الدوبامين (dopamine)، التي يتم افرازها في الدماغ فيزيد إحساس المرء بالمتعة والرضى أو تقدير الذات (self esteem). كما أن النظام التحفيزي هذا يؤدي الى رغبة المرء في تكرار التجربة حتى يستعيد الشعور بالمتعة. فمثلاً، إذا أكلت وجبة شهية فستفرز مادة الدوبامين في الدماغ ويدخلك إحساس بالمتعة يؤدي الى رغبة كبيرة في أكل نفس الوجبة مرة أخرى. هذا النظام التحفيزي هو نفسه المسئول عن عملية ادمان المخدرات وغيرها. وقد أوضحت الدراسات أن مادة الدوبامين تفرز أيضا عن توقع الحصول على الشئ. مثلا، قد يزيد إفراز الدوبامين بمجرد اتخاذ القرار او التحضير للذهاب للمطعم.
السلطة في حد ذاتها تعتبر حافز، والسيطرة، حتى لو كانت مؤقتة، تعتبر حافزاً، ومثالاً لذلك الشعور الغامر بالنشوة عند انتصار فريق كرة القدم المفضل للشخص.
أثبتت الدراسات أن الحصول على السلطة او النفوذ (power) أو السيطرة (dominance) يؤدي الى زيادة افراز الدوبامين في نظام التحفيز الدماغي بنفس الطريقة. وكما يتعود مدمن المخدرات على جرعة محددة فيسعى لزيادة الجرعة تدريجيا لزيادة المتعة، ينزع صاحب السلطة لزيادة سلطته. في مسعاه ذلك قد يجازف بأسرته، استقراره الخ، لإختلال الأولويات في عملية اتخاذ القرار في الدماغ (سلوكيات المخاطرة risk taking behaviour)، تماما كما يفعل المدمنين.
توقف إفراز الدوبامين بواسطة نظام التحفيز الدماغي يؤدي الى التوتر، القلق والاحباط، وهي اشياء مجرد التفكير في إمكانية حدوثها قد يؤدي إلى اتخاذ سلوكيات قد تتنافى مع المنطق، القوانين او الاخلاق لتلافي حدوثها.
وربما لاحظ الناس أن الرجال هم أكثر من النساء ميلاً للسلطة والسيطرة. يرجع ذلك للتأثير القوي لهرمون التستوستيرون (testosterone) على الجهاز التحفيزي للدماغ، مباشرة أو عن طريق تأثيره على إفراز مادة الدوبامين. كما أن هناك تفاوت عند الذكور في الميل للسلطة والسيطرة وربما كان مرجع ذلك لتفاوت نسب هرمون التستوستيرون في الدم أو تفاوت في درجة حساسية مستقبلات هرمون التستوستيرون في خلايا الدماغ (لكل الهرمونات مستقبلات في سطح الخلايا تساعد في إدخال الهرمون المعني إلى داخل الخلايا. هذه المستقبلات هي عبارة عن بروتينات تنتجها جينات يمكن أن تحدث فيها تحورات تؤثر في كفاءتها في أداء وظيفتها سلباً أو ايجاباً.
٣. النواحي الإجتماعية:
الإنسان كائن إجتماعي. وهذه الخاصية تطورت من خلال مئات الآلاف من السنين. تطور هذه الخاصية كان ولما يزل ذو اهمية قصوى في بقاء المجتمعات البشرية. فمنذ أن كان النشاط الغذائي الرئيسي للبشر هو الصيد ولقط الثمار (hunter gatherer) كان ضرورياً للإنسان العمل في شكل مجموعات حتى يتمكن من الحصول على الغذاء والحماية. ولكن حتى يكون أداء المجموعة فعالاً، كان لا بد من ظهور الحاجة للقيادة ومن ثم التراتبية (hierarchy) داخل المجموعة. ولأن “الفي ايدو القلم ما بيكتب روحه شقي”، فتدريجياً صار موقع القيادة واتخاذ القرار موقع امتياز لأنه يهطي ضماناً أكبر للحصول على الموارد. ورغم تطور المجتمع الإنساني في ثوراته الكبرى، الزراعية، الصناعية والرقمية، لم ينفك الإرتباط بين السلطة والموارد (الثروة). فصارت السلطة نفسها مورداً يتصارع حوله الناس ويقتتلون.
لكل إنسانٍ تكوينه الفريد الذي يعطيه هوية ذاتية (self identity)، تتمثل فيها خلاصة جيناته، تربيته، تجاربه، الامه واحلامه. عندما يدخل الإنسان مع اناسٍ آخرين في تفاعل اجتماعي، سريعاً ما يدخل في عملية لا واعية تمر اولاً بتصنيف هؤلاء الناس (social categorization)، ومن ثم تعريف نفسه كفرد من أحد هذه التصنيفات (social identification) وبعدها يدخل في المقارنة (social comparison) )انطر: نظرية الهوية الاجتماعية (Social identity theory Tajef). هذه التصنيفات يمكن أن تكون عرقية، وعندها يتم التصنيف بناء على ملامح محددة، أو غير ذلك، وهنا يخترع الناس ما يميزهم، مثلا الازياء المميزة، الشلوخ، اللحى، الإعلام الخ. وعدم القدرة على التصنيف او التعريف الصحيحين قد يعني احياناً الفرق بين الموت والنجاة.
المقارنة الاجتماعية هي التي تؤدي الى بناء سيكولوجية المجموعة الداخلية ingroup psychology والتي تعظم من شأن المجموعة وافرادها ونسبة كل ما هو جميل لها، وسيكولوجية المجموعة الخارجية outgroup psychology والتي تحط من قدر المجموعة او المجموعات الأخرى ونسبة كل ما هو قبيح لها. وهذا قد يؤدي في نهاية الأمر للصراعات الدموية حول الموارد (راجع: تجربة كهف روبرت Robbert’s cave experiment تعرف ايضا ب “نظرية الصراع الواقعي” Realistic conflict theory.
والمجموعات الإجتماعية قد تتأثر بمحيطها كما يتأثر الأفراد. فمثلما يزيد إفراز الدوبامين في الدماغ عند الفرد حين وضعه في موقع السلطة فيزيد ذلك من تقدير الذات، فإن المجموعات التي تمتلك، (أو يمتلك أحد أفرادها) السلطة، يزيد فيه تقدير الذات الجمعي (collective self esteem). الحرمان الممنهج من السلطة لمجموعات إجتماعية يؤدي إلى التأثير السلبي في تقدير الذات.
أثبتت الدراسات أن ارتفاع تقدير الذات (high self esteem) له مردودات ايجابية كثيرة في الحياة منها صحة جسدية ونفسية أفضل، والتفوق الأكاديمي والمهني والوظيفي.أما انخفاض تقدير الذات فقد يؤدي إلى عواقب وخيمة مثل القلق والاكتئاب، الأداء الأكاديمي السئ والإدمان على المخدرات والكحول. ولأن الفرد والمجموعة الاجتماعية لها نزعة طبيعية نحو رفع تقدير الذات، فيبكون مفهوماً لماذا تندلع الصراعات حول السلطة والموارد.
بإسقاط الخلفية العلمية أعلاه على القضية السودانية، نجد أن الحرمان المتراكم من السلطة والثروة لفئات اجتماعية أو إثنية بعينها قد أسس لبنية شعور داخلية من الغبن وضعف تقدير الذات الفردي والجمعي، ما جعل التفاوض على السلطة بعد الثورات لا يتعلق فقط بالمصالح السياسية، بل بعملية “استرداد كرامة تاريخية” مهمشة. تجاهل هذه الأبعاد النفسية الإجتماعية في بناء الدولة يؤدي الى إعادة إنتاج نفس الصراعات وإن تغيرت الوجوه والظروف السياسية.
٤. الخلاصة:
بناء الدولة الحديثة يستلزم الإعلاء من قيم عديدة، بعضها أساسي في استقرار الدولة نفسها، مثل العدالة والمساواة. عند تطبيق هذه القيم على قضايا مصيرية مثل قسمة السلطة والثروة، ربما يوفق السياسيون في الوصول إلى سياسات تؤدي الى الاستقرار السياسي. بالرغم من ذلك، فإن فهم الدوافع الخفية في لا وعي الإنسان والتي تؤدي للصراع حول السلطة قد يؤدي إلى فهم السياسيين لأهمية تطبيق العدالة والمساواة من جهة، وإلى الإسراع بالتشافي المجتمعي حال الوصول الى سلام.
حين نفهم أن السلطة ليست رفاهية نخبوية، بل امتداداً لغريزة بيولوجية تدعمها محفزات دماغية ومطلبٌ لكرامة جمعية، يمكننا أن نصوغ عقدًا اجتماعيًا أكثر إنصافًا. السلطة ليست الشرّ المطلق، لكنها مثل النار: إمّا أن تنير دربًا أو تحرق وطنًا. ما نحتاجه هو كيفية فهمها وإدارتها.
تنبيه:
استخدام المصطلحات الإنجليزية هنا الغرض منه تمكين القارئ من العودة للمصادر الأصلية أو البحوث الأكاديمية. إن السياسة لا تنفصل عن علم النفس، الإجتماع أو البيولوجيا، بل تتشابك معها في فهم الحوافز البشرية العميقة.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة