✍ حسن عبد الرضي الشيخ
في واحدة من أكثر فصول العبث السياسي انحطاطًا، سقط القناع مجددًا عن وجه السلطة الزائفة، حين أعلنت اللجنة التي شكّلها عبد الفتاح البرهان أن عودة المواطنين إلى الخرطوم يجب أن تُؤجَّل لستة أشهر أخرى. ستة أشهر من الانتظار على رصيف الموت، بعد أن دفع الآلاف ثمن أكذوبة “استعادة العاصمة” من دمائهم وكرامتهم وآمالهم التي سُرقت بدمٍ بارد.
لقد قيل للناس: عودوا، الخرطوم آمنة! فشدّوا الرحال من المعسكرات البائسة، باعوا ما تبقّى من ذهب الزوجات، حملوا أطفالهم على الأكتاف وعادوا إلى عاصمةٍ لا ماء فيها ولا كهرباء ولا دواء، فقط موت مجاني، شوارع مزروعة بالجثث، أسواق منهوبة، ومليشيات تتقن الرعب أكثر من أي نظام.
ألم نحذر من هذا الفخ؟ بلى، قد قلنا إن الخرطوم لم تعد صالحة للحياة، لا لأنها مدمّرة فحسب، بل لأنها مدينة مختطفة، تتحكم فيها مليشيات وتحرسها أشباح. اليوم فقط، وبعد أن سقطت ورقة التوت، تخرج الدولة لتقول: “العودة غير مناسبة”! وكأن هذه الكارثة كانت مجرد سوء تقدير، لا خديعة مقصودة.
لكن الحقيقة أكبر من تأجيل القرار. إنها جريمة. لقد تم استخدام الخرطوم كورقة في حرب نفسية قذرة، ودُفعت أرواح المدنيين ثمناً لخطاب كاذب عن “الكرامة”. أي كرامة؟ وهل هناك كرامة في أن يعود الإنسان ليُسرَق بيته، ويُطارد من مسلحٍ لا وجه له، ويُدفن في حديقة منزله لأنه لا يجد من ينقله إلى مقبرة؟
ثم تأتي القنبلة الأخرى: قرار البرهان بإخلاء العاصمة من جميع القوات المسلحة والمليشيات. قرارٌ يبدو ظاهريًا وطنيًا، عقلانيًا، لكن باطنه يحمل رائحة البارود! كيف يُتخذ قرار كهذا دون خطة أمنية؟ من سيملأ الفراغ؟ هل الشرطة قادرة؟ وهل الجيش موجود أصلًا؟ من سيمنع انفجارًا دمويًا على النفوذ بين مليشيات ترفض المغادرة وتقول علنًا: “الخرطوم ما بنخليها”؟
إننا أمام لحظة فارقة، عنوانها الحقيقي: الخرطوم تُدفن حيّة، ويُراد لأهلها أن يُستعملوا وقودًا في معركة زائفة. ليست هذه معركة كرامة، بل معركة نفوذ تُخاض على جثث الأبرياء. لا تسوية دون نزع شامل للسلاح، ولا عودة دون عدالة انتقالية، ولا سلام دون مساءلة.
فإلى من لا يزال يصدق “بيانات الدولة”، نقولها واضحة: لا تقعوا في الفخ مرة أخرى. لا تصدقوا من يبيع الموت باسم العودة، ولا من يلوّح بالبندقية على أنه حامي الكرامة. فالكرامة الحقيقية لا تأتي من فوهة بندقية… بل من إنسان آمن في وطنٍ عادل.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة