
حيدر المكاشفي
من العنوان اعلاه المستلف من العبارة الشهيرة (كلام الليل يمحوه النهار) وبالانجليزي Night talk is wiped away by the day ، يمكن استيلاد عناوين كثيرة منها على سبيل المثال (كلام الليل مدهون بزبدة)، والمعنى واضح إذ ان الزبدة تذوب اذا طلع عليها النهار، ومنها (بين وعود التخفيف الجزافية وواقع الجباية الفعلية: التناقض بين كامل إدريس وجبريل إبراهيم يثقل كاهل المواطن ويحرج حكومة الامل)، والرجلان الوارد ذكرهما اعتقد معروفان، ف (كميل) بحسب مناداة الفرنجة له وهو الذي خدم عندهم وعاش بينهم لسنين متطاولة، هو كامل ادريس رئيس وزراء حكومة الامر الواقع المعيّن بواسطة البرهان قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة الانقلابي، وجبريل هو جبريل ابراهيم الذي عاد لوزارة المالية مستفيداً من شعار المرحلة (المجد للبندقية)، وليس لاستحقاق اتفاقية جوبا كما ادعى، حيث استطاع عبر بندقيته ان يعود مجدداً لوزارة المالية، رغم انف تعهدات كامل ادريس بأن تعييناته الوزارية تتم عقب دراسة دقيقة للكفاءات والخبرات الوطنية، ولكن قبل أن نأتي على ذكر كلام الأول الذي يمحوه الثاني، ننتهز هذه السانحة لنحكي لكم القصة الطريفة للمثل(كلام الليل يمحوه النهار) الذي إستلهمنا منه عنواننا أعلاه ..وتقول القصة بينما كان محمد بن زبيدة الأمين يطوف في قصرٍ له، إذ مر بجارية له سكرى، وعليها كساء خز تسحب أذياله، فراودها عن نفسها، فقالت: يا أمير المؤمنين
أنا على حال ما ترى، ولكن إذا كان من غدٍ إن شاء الله،
فلما كان من الغد مضى إليها، فقال لها: الوعد.
فقالت له: يا أمير المؤمنين: أما علمت أن كلام الليل يمحوه النهار. فضحك وخرج إلى مجلسه، فقال: من بالباب من شعراء الكوفة؟ فقيل له مصعب والرقاشي وأبو نواس. فأمر بهم فأدخلوا عليه، فلما جلسوا بين يديه، قال ليقل كل واحد منكم شعراً يكون آخره كلام الليل يمحوه النهار، وتبارى الشعراء الثلاثة في نظم ابيات تتضمن العبارة، وكان ابلغهم ابونواس الذي انشأ يقول:
وخود أقبلت في القصر سكرى
وزين ذلك السكـر الـوقـار
وهز المشي أردافـاً ثـقـالاً
وغصنا فيه رمان صـغـار
وقد سقط الردا عن منكبـيهـا
من التجميش وانحـل الإزار
فقلت: الوعد سيدتي.
فقالـت كلام الليل يمحوه النهار
فقال له: أخزاك الله، أكنت معنا ومطلعاً علينا؟
فقال: يا أمير المؤمنين عرفت ما في نفسك فأعربت عما في ضميرك. فأمر له بأربعة آلاف درهم، ولصاحبيه بمثلها…
وبعد… لن نطيل عليكم بعد هذا المثل الوافي والكافي الذي كشف أبعاد الاقوال المرسلة وأزاح ورقة التوت عن سوأة التصريحات المجانية، التي يطلقها صاحبها في الهواء الطلق مثل (الفُساء) الذي يريح صاحبه بينما يتأذي منه الآخرون، وكأنما يتأسى أمثال هؤلاء بالمثل الآخر(هو الكلام بفلوس)، ما دام أنه مجاني لا ضريبة عليه ولا تترتب عنه أي مسؤولية… وإليكم الآن قصة كلام كميل الذي لم يعتد أو يعترف به جبريل ابراهيم وكأني به يقول في خويصة نفسه كلام كميل (كلام ساكت)، فالسيد كميل كان قد اصدر عقب تسلمه منصبه مباشرة جملة من القرارات اعلنها على الملأ، منها القرار الذي بصدده وهو الذي يقضي بتخفيض أسعار السلع الاستهلاكية الأساسية وخفض رسومها الجمركية بهدف تخفيف المعاناة عن كاهل المواطن جراء الظروف التي تمر بها البلاد كما قال، ولكن السيد جبريل ابراهيم الذي كان قد اعلن دعمهم للسيد كميل ومؤازرته وانهم يقفون خلفه، يبدو انه يقف خلفه حاملاً استيكة، على غرار المقولة المصرية التي شاعت ابان تقلد السادات مقاليد الحكم خلفاً لعبد الناصر، ان السادات سار على درب عبد الناصر ولكن بالاستيكة، ومؤدى العبارة المجازية يشير إلى أن الرئيس أنور السادات عمد الى تغيير سياسات سلفه ومحوها تماماً ومؤدى العبارة كما لو أنه استخدم ممحاة (استيكة) لمحو ما رسمه سلفه..فالسيد جبريل ابراهيم وعقب تسلمه منصبه مباشرة، كان اول قرار اتخذه هو رفع الدولار الجمركي إلى 2400 جنيه بعد أن تم تخفيضه في مايو الماضي من 2167.11 جنيه إلى 2092.6 جنيه. ومحصلة هذا القرار هي المزيد من الارتفاع الجنوني في الأسعار. الامر الذي يناقض ويهدم ويهزم بالكلية قرار كميل رئيس الوزراء المار ذكره بخفض الاسعار وخفض الدولار الجمركي، وكأنه يقول بلسان الحال (كميل دا بتكلم ساكت مافي كلام اسمو خفض الدولار الجمركي).. هذا التناقض الحاد يثير تساؤلات مشروعة، هل نحن أمام حكومة تسير وفق برنامج اقتصادي موحد؟ أم أن القرارات الاقتصادية تُتخذ بمعزل عن رأس السلطة التنفيذية؟ وهل وزير المالية لديه تفويض يتجاوز سقف التوجهات التي رسمها رئيس الوزراء أمام الشعب؟ وقبل كل ذلك هل لديها برنامج اقتصادي ابتداءً، كما ان هذا التناقض ينطوي على ما يشير إلى اختلال في التنسيق الداخلي للحكومة، وربما صراع غير معلن بين مراكز النفوذ داخل سلطة الامر الواقع، إذ أن جبريل إبراهيم، الذي يمثل أحد أبرز قادة الحركات المسلحة، قد لا يكون مجرد وزير تكنوقراطي، بل سياسي يتمتع بدعم من قوى ضاغطة ترى أن الموارد الجمركية مصدر رئيسي للتمويل في ظل انكماش الإيرادات. لكن الإشكالية الحقيقية لا تكمن فقط في من اتخذ القرار، بل في فقدان الثقة لدى المواطن، الذي بدأ يلمس أن الوعود السياسية لا تجد طريقها إلى أرض الواقع، وأن معادلة (رفع المعاناة) ليست سوى شعار مرحلي لكسب القبول الشعبي. بيد ان رفع الدولار الجمركي يعني ببساطة زيادة أسعار السلع المستوردة، وهي تمثل نسبة كبيرة من استهلاك السوق المحلي. والنتيجة المباشرة هي توسع دائرة التضخم، وعودة الطوابير، ومضاعفة ارتفاع تكلفة المعيشة المرتفعة اصلاً، خاصة على الفئات الأضعف. فهل هذه هي أولى بشائر حكومة (الامل) التي يُفترض أنها جاءت لمعالجة الأزمة وليس تعميقها فاذا بها للسخرية تحل الالم محل الامل، ومن جهة أخرى، فإن قراراً بهذه الخطورة يُفترض أن يُتخذ ضمن حزمة إصلاحات اقتصادية متكاملة، مصحوبة بشبكة أمان اجتماعي، لا أن يُفرض بشكل مفاجئ ويحمّل المواطن كل الأعباء. فما الذي يدفع وزير المالية لتكرار ذات السياسات القديمة التي أثبتت فشلها مراراً، ويعيد القرار أيضاً إلى الواجهة مشكلة غياب الشفافية في صناعة القرار الاقتصادي. فوزيرالمالية لم يكشف للرأي العام مبررات قراره، ومن جهته التزم رئيس الوزراء الصمت ولم يوضح لمن وعدهم بخفض الاسعار حقيقة ما جرى وافرز هذا التناقض بين تصريحه السابق وقرار جبريل اللاحق، وهل يمكن لمواطن يعاني من الحرب والنزوح والجوع أن يتحمل مزيداً من(الإصلاحات) القاسية دون أن يُشرك في القرار أو حتى يُخاطب بشفافية، إن ما حدث لا يمكن اعتباره مجرد خطأ فني أو اجتهاد اقتصادي، بل هو ضرب من التخبط والتناقض في السياسات العامة. حكومة تقول شيئاً وتفعل نقيضه ستفقد احترامها (إن وجد) والثقة فيها، وتؤسس لمزيد من السخط العام، وهو أمر خطير في بلد يئن تحت أزمات مركّبة. وإذا لم تُراجع الحكومة أولوياتها وتضبط خطابها بما يتسق مع قراراتها، فإنها تسير في طريق فقدان الشرعية الأخلاقية ايضاً بعد السياسية المفقودة اصلاً.. المطلوب اليوم ليس فقط التراجع عن القرار، بل تأسيس نهج جديد يضع المواطن في مركز السياسات لا في هامش المعاناة.
المصدر: صحيفة التغيير