رغم الحضور الوازن الذي تمارسه الحركات الإسلامية بمختلف تياراتها (الإخوانية، السلفية، الجهادية، الحركية…) في الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية في العالم الإسلامي، إلا أن تاريخها الحقوقي والمؤسساتي والفكري لا يزال إلى حد كبير غير مكتوب أو غير مكتمل. ويُعزى ذلك إلى عدة عوامل مركّبة ومتداخلة

1. طابع السرية

يُعد الطابع السري من السمات البارزة التي وسمت نشأة وتطور العديد من الحركات الإسلامية، لا سيما تلك التي تشكلت في بيئات سياسية مغلقة أو في ظل أنظمة سلطوية قمعية لا تسمح بوجود تنظيمات مستقلة أو معارضة. في مثل هذه السياقات، اضطرت الحركات إلى تبني أساليب العمل السري كخيار اضطراري وليس بالضرورة عقائديًا، وذلك حفاظًا على سلامة أعضائها واستمرار وجودها. فتم اعتماد البنية الهرمية المغلقة، وتحديد نطاق المعرفة داخل كل حلقة تنظيمية بما يتناسب مع موقعها، وتقييد تداول الوثائق والبيانات، بحيث لا تخرج من الدائرة التي أنتجتها، وأحيانًا تُتلف بعد استعمالها.

هذا النمط التنظيمي، رغم ما وفره من حماية في مواجهة القمع البوليسي والملاحقة الأمنية، أفرز مجموعة من الإشكالات بعيدة المدى، من أبرزها تغييب الذاكرة المؤسسية وتعطيل بناء أرشيف تاريخي متكامل للحركة. فغياب التوثيق الرسمي والمكشوف للقرارات والمراسلات الداخلية، أو حصرها في أيدي قلة من القيادات، جعل كتابة التاريخ الداخلي للحركات أمرًا بالغ الصعوبة، ومفتوحًا أمام الروايات الفردية والتأويلات الشخصية، بل وأحيانًا النزاعات الداخلية حول “من يملك الذاكرة” ومن يحق له روايتها.

وتُعد تجربة جماعة الإخوان المسلمين في مصر مثالًا بارزًا في هذا السياق. فبسبب القمع الشديد الذي تعرضت له منذ أربعينيات القرن العشرين، لا سيما بعد اغتيال حسن البنا سنة 1949، ثم حظر الجماعة رسميًا في عهد عبد الناصر، اضطرت الحركة إلى العمل السري، مما حال دون بناء أرشيف واضح وشامل لفترات التأسيس وما بعدها. ونتيجة لذلك، فإن جزءًا كبيرًا من تاريخ الجماعة يعتمد اليوم على مذكرات أفراد (مثل: محمود عبد الحليم في “الإخوان المسلمون… أحداث صنعت التاريخ”)، دون وجود توثيق تنظيمي رسمي ومحايد.

وينطبق الأمر نفسه على الجماعة الإسلامية في مصر خلال فترة الثمانينات والتسعينات، التي نشطت في إطار صدام مفتوح مع الدولة، واعتمدت على البنية المغلقة والعمل تحت الأرض. وعندما بدأت الجماعة مراجعاتها الفكرية في السجون بداية من 1997، وجدت نفسها مضطرة لإعادة بناء ذاكرتها، واستدعاء قراراتها وتبرير مواقفها السابقة دون أرشيف مؤسسي متكامل.

كما يمكن الاستشهاد بتجربة حركة الشبيبة الإسلامية في المغرب، التي تأسست في سبعينيات القرن العشرين، وعرفت فترة من النشاط السري والعلني، قبل أن تنفجر أزمتها مع الدولة في الثمانينات عقب اتهام مؤسسها عبد الكريم مطيع بالضلوع في اغتيال الزعيم اليساري عمر بنجلون. هذه الحركة، التي كانت لها امتدادات فكرية وتنظيمية داخل عدد من المدن المغربية، غابت عنها اليوم مصادر التوثيق الرسمية، ولم يُدوَّن تاريخها من داخلها، بل ظل حبيس اجتهادات خصومها أو تأويلات بعض المنشقين عنها.

وينطبق الأمر نفسه على حركة الشبيبة الإسلامية المغربية، التي تأسست في سبعينيات القرن العشرين في سياق سياسي مضطرب تميّز بهيمنة السلطوية وصراع الدولة مع الحركات اليسارية والإسلامية على السواء. فقد اعتمدت هذه الحركة، بقيادة عبد الكريم مطيع، على العمل السري منذ نشأتها، وركزت على بناء تنظيم شبابي دعوي له امتداد في عدد من المدن المغربية، مستلهمًا التجربة الإخوانية في بعدها التنظيمي والدعوي، مع جرعة خطابية ثورية كانت أقرب إلى تيارات الإسلام السياسي الرديكالي.

لكن غياب التوثيق الرسمي داخل الحركة، واعتمادها على شبكة مغلقة من الاتصالات، وعدم نشر وثائقها التنظيمية، أدى إلى ضياع جزء كبير من تاريخها الداخلي، وفقدان أرشيف يمكن أن يكون مرجعًا للباحثين. كما ساهمت الصدمة السياسية التي تلقتها الحركة بعد اتهامها بالتورط في اغتيال الزعيم النقابي اليساري عمر بنجلون سنة 1975، وما تبع ذلك من تفكك تنظيمي ولجوء مؤسسها إلى الخارج، في تمزيق بنيتها الداخلية وتعميق القطيعة بين أجيالها.

واللافت أن عبد الكريم مطيع نفسه، الذي استقر لاحقًا في المنفى بين السعودية ثم بريطانيا، لم ينشر حتى اليوم مذكرات تنظيمية واضحة أو أرشيفًا موثقًا لتاريخ الحركة. بل اقتصرت إسهاماته على كتابات متفرقة ذات طابع دفاعي أو جدلي، غالبًا ما ركزت على الصراعات السياسية أو التبرير الإيديولوجي، دون أن تسد الفجوة التاريخية أو تقدم رواية متماسكة للأحداث من داخل التنظيم. ونتيجة لذلك، بقيت الشبيبة الإسلامية واحدة من أكثر الحركات غموضًا في التاريخ السياسي المعاصر للمغرب، حيث لا تتوفر للباحثين سوى شهادات غير موثقة، أو تأويلات متضاربة من خصوم الحركة أو بعض أعضائها السابقين.

ويكشف هذا الغياب عن مأزق كبير في تاريخ الحركات الإسلامية السرية، حيث يؤدي العمل تحت الضغط الأمني، وتغليب الاعتبارات التكتيكية على البناء المؤسسي، إلى خسارة الذاكرة الجمعية، وحرمان الأجيال اللاحقة من إمكانية الاستفادة من التجربة السابقة أو حتى نقدها نقدًا علميًا.

إن هذا الغياب الممنهج أو الاضطراري للأرشفة لا ينعكس فقط على الصعيد التاريخي، بل يُضعف أيضًا مناعة الحركة ذاتها، ويمنع تراكم الخبرة التنظيمية، ويجعلها عرضة لتكرار الأخطاء، ويصعب عملية تقييم الأداء أو مساءلة القيادات، بل ويدفع أحيانًا إلى شخصنة الذاكرة، بحيث تصبح مرتبطة بالأفراد لا بالمؤسسة، وهو ما يُعرقل أي انتقال سلس بين الأجيال داخل الحركة.

2. أولوية الممارسة العملية على التنظير والتأريخ الذاتي 

تُعدّ الحركات الإسلامية أحد أبرز الفاعلين في الساحة السياسية والاجتماعية في العالم الإسلامي منذ منتصف القرن العشرين، غير أن تناولها لمفهوم المعرفة التنظيمية والتأريخ الذاتي ظل محدودًا وهامشيًا. فغالبًا ما تُعطي هذه الحركات الأولوية للممارسة الميدانية، سواء في مجالات الدعوة والإصلاح الاجتماعي أو في أشكال النضال السياسي، متأثرة في ذلك بضرورات الحشد والتعبئة وسياقات الصراع مع الأنظمة القائمة أو المنافسة مع تيارات فكرية أخرى. هذا الميل البراغماتي تجاه “العمل” على حساب “النظر” أنتج حالة من الفقر المعرفي داخل بنية الحركات نفسها، إذ لم تولِ اهتمامًا كافيًا بتوثيق مساراتها أو تأريخ تحولاتها الفكرية والتنظيمية بشكل علمي ومنهجي.

ويُعزى هذا الغياب لأسباب متعددة، من أبرزها الطابع السري الذي لازم نشأة العديد من هذه الحركات، خاصة تلك التي نشأت في بيئات استبدادية أو تحت الملاحقة الأمنية، مما دفعها إلى اعتماد العمل السري وتجنب تدوين الكثير من القرارات والمراجعات، حتى لا تُستعمل ضدها لاحقًا. كما أن بعض الحركات نظرت إلى التأريخ بوصفه ترفًا معرفيًا أو عملًا نخبويًا لا طائل منه في ظل متطلبات الواقع الملحة. ويؤدي هذا التوجّه إلى إنتاج “ذاكرة شفهية” هشّة، تعتمد على الرواية الفردية أكثر من الوثيقة الجماعية، مما يصعّب على الباحثين مهمة إعادة بناء تاريخ الحركة بشكل علمي وموضوعي.

من جهة أخرى، فإن قلة المراجعات الفكرية المكتوبة أو التحليلات الذاتية لمسار الحركات الإسلامية، تجعل هذه الأخيرة تفتقر إلى آليات التقويم الداخلي ومواجهة الذات، وهو ما يؤدي إلى تكرار الأخطاء نفسها، أو الاصطدام الدوري بالواقع دون استعداد نظري كافٍ لاستيعابه. ولا يُستثنى من هذا القصور سوى بعض التجارب المحدودة مثل مراجعات الجماعة الإسلامية في مصر أو بعض الكتابات التي راجعت تجربة الصحوة الإسلامية لكنها تظل استثناءً لا يُعبر عن القاعدة العامة.

وتؤكد الدراسات الحديثة في علم الاجتماع الحركي والسياسة المقارنة (مثل كتابات أوليفييه روا، وجيل كيبيل، وأسعد أبو خليل) أن غياب التنظير الذاتي لا يُضعف فقط إمكانية تطور الحركات الإسلامية داخليًا، بل يحد أيضًا من إمكانية فهمها خارجيًا. فبدون أرشفة واضحة للمفاصل الحاسمة في تجربة الحركات، مثل لحظات التحول العقائدي، أو القرارات المصيرية بالتسلّح أو الانخراط السياسي، تبقى هذه الحركات “مُغلقة تحليليًا”، ويظل الباحث مضطرًا للاعتماد على الشهادات الشفوية أو التحليلات الخارجية التي قد تكون مجتزأة أو متحيزة.

من هنا، تبرز الحاجة الماسة إلى مشروع تأريخي نقدي للحركات الإسلامية، يقوم على جمع الوثائق المتوفرة، وتحليل البيانات الخطابية، ومقارنة التجارب التنظيمية، بما يُعيد الاعتبار للبعد المعرفي في دراسة الظاهرة الإسلامية المعاصرة. كما أن تشجيع الحركات نفسها على إنتاج أرشيف ذاتي، ومأسسة الذاكرة التنظيمية، يُعد مدخلًا ضروريًا لإعادة التوازن بين العمل والمعرفة، بين التعبئة والتنظير. إن هذه السمة تُفرغ الحركات الإسلامية، في كثير من الأحيان، من دورها كمنتجة للمعرفة أو كفاعل نقدي داخل الفضاء العمومي، وتُحولها إلى أدوات وظيفية تُعيد إنتاج الخطاب نفسه دون تجديد. لذلك، يُعد توثيق التجربة الإسلامية، وتحليل بنياتها الفكرية والتنظيمية، من المهام الأساسية التي ينبغي أن ينهض بها الباحثون في الدراسات الإسلامية والحركات الاجتماعية، ليس فقط لفهم الإسلاميين، بل لفهم تحولات المجال الديني والسياسي في العالم الإسلامي ككل

3 إشكالية التنازع على الرواية التاريخية

تعاني معظم الحركات الإسلامية من غموض شديد في ما يخص التأريخ لنشأتها وتطورها، ليس فقط بسبب الطابع السري الذي وسم بدايات العديد منها، بل أيضًا بسبب النزاع الداخلي حول “الحق في السرد”، أي من يملك أحقية رواية التاريخ وتمثيله داخل الحركة. وهذا النزاع غالبًا ما يؤدي إلى تعدد الروايات وتضاربها، بل وإلى تزييف واعٍ أو غير واعٍ للتاريخ، بهدف تأكيد مشروعية جناح معيّن، أو تبرير مواقف سياسية، أو محو مسؤوليات سابقة.

وقد أشار عدد من الباحثين الغربيين، من أمثال أوليفييه روا وجيل كيبل، إلى غلبة الطابع التعبوي والآني على الخطاب الداخلي لهذه الحركات، حيث يُستخدم التاريخ كأداة للتعبئة أو للمواجهة السياسية، وليس كأرشيف نقدي أو سجل موضوعي. فبدلًا من التوثيق البارد والمنهجي، غالبًا ما يتم بناء “سرديات نضالية” تشرعن مواقف معينة، وتُضفي القداسة على زعامات بعينها، مع تغييب أو تحوير تفاصيل محرجة أو معقدة.

ويزداد هذا التنازع حدة حين تُفتح ملفات التأسيس والعلاقة بالسلطة، كما هو الحال في الحالة المغربية، حيث لا تزال مذكرات أبرز قيادات الحركة الإسلامية سواء في حركة الشبيبة الإسلامية، أو الإصلاح والتجديد، أو التوحيد والإصلاح محكومة بمنطق الانتقاء والتأويل الذاتي. فالروايات التي نُشرت إلى اليوم لا تشكّل سردية موحدة، بل تكشف عن تناقضات حادة في تصوير الأحداث والمواقف، خاصة فيما يتعلق بالسنوات المفصلية مثل مرحلة السبعينات والثمانينات، واللقاءات مع دوائر السلطة، أو الصراعات بين أجنحة التنظيم الواحد.

بل إن ما يُلاحظ بقوة هو أن الذاكرة التنظيمية لتلك الحركات تُبنى في الغالب من داخل لحظة سياسية راهنة، مما يجعل التاريخ عُرضة لإعادة الصياغة حسب الحاجة، سواء لتبرير المشاركة السياسية، أو لتفسير الانشقاقات، أو حتى لمواجهة تيارات إسلامية منافسة. ويصل الأمر أحيانًا إلى إعادة إنتاج الأسطورة المؤسسة بطريقة تُقصي أصواتًا ومساهمات مركزية، فقط لأنها لا تنسجم مع السردية السائدة.

وتزداد هذه الإشكالية تعقيدًا حين نعلم أن أغلب من كتبوا المذكرات السياسية أو التأريخ الذاتي ينتمون إلى جيل “الفاعلين” أنفسهم، أي أنهم ليسوا مؤرخين محترفين بل أطرافًا في الحدث، مما يُضعف من موضوعية الطرح ويعزّز الميل إلى التبرير أو التمجيد الذاتي. كما أن غياب أرشيف حركي منظم، وندرة الوثائق الأصلية، وانعدام مراكز بحث مستقلة تُعنى بجمع الشهادات وتحقيق الوثائق، يجعل من كتابة تاريخ هذه الحركات تحديًا معرفيًا وأخلاقيًا كبيرًا.

وقد أشار الباحث محمد ضريف، في أكثر من دراسة، إلى هذه الإشكالية حين قال إن “تاريخ الإسلاميين في المغرب يُكتب من داخل الجماعة، لا من خارجها”، ما يجعل الرواية تابعة للمنطق الحركي لا للمعايير الأكاديمية. كما أن المقاربة الأمنية الرسمية التي كثيرًا ما طغى عليها الطابع الاستخباراتي لم تُنتج بدورها أرشيفًا عموميًا يُمكّن من بناء قراءة تاريخية دقيقة.

بناء على ما سبق، فإن الحاجة ماسة إلى مشروع كتابة تاريخ موضوعي للحركات الإسلامية، يشارك فيه مؤرخون متخصصون، ويستند إلى شهادات متقاطعة، ووثائق أصلية، ومقاربة تحليلية متعددة الزوايا (سياسية، اجتماعية، فكرية، أمنية). وحده هذا الجهد الكولكتيفي يمكن أن يحرر التاريخ من هيمنة السردية الأحادية، ويعيد الاعتبار إلى الفاعلين المنسيين، والأحداث المُغفلة، والتحولات المُؤولة وفق الحاجات الظرفية.

4 غياب المأسسة والتوثيق في الحركات الإسلامية المغربية

التجربة المغربية: الحركة الإسلامية وتحديات التوثيق المؤسسي

تُعدّ التجربة المغربية للحركة الإسلامية نموذجًا غنيًّا بالتحولات والتعقيدات، ليس فقط على مستوى الأداء السياسي والدعوي، بل أيضًا على صعيد الإنتاج المعرفي والتوثيق المؤسسي. فمنذ نشأتها خلال سبعينيات القرن الماضي، شهدت هذه الحركات بمختلف تمثلاتها من “الشبيبة الإسلامية” مرورًا بـ”جماعة العدل والإحسان” وصولًا إلى “حزب العدالة والتنمية” تحولات نوعية في الممارسة والتنظيم والمرجعية، إلا أن الجهد التوثيقي الموازي ظل ضعيفًا أو مشتتًا. وهو ما يجعل من دراسة البعد التوثيقي مدخلًا مهمًا لفهم هشاشة الأرشيف الإسلامي في السياق المغربي وغياب الذاكرة المؤسسية.

التعددية التنظيمية والاختلاف المرجعي كعائق بنيوي

تتسم الحركة الإسلامية المغربية بتنوع تياراتها وتوجهاتها، من الحركات ذات الطابع التربوي والدعوي إلى تلك التي انخرطت في العمل السياسي المؤسساتي. هذا التعدد يعكس دينامية فكرية وتنظيمية إيجابية، لكنه في الآن ذاته يُعقّد من مسار التوثيق، إذ لا توجد مرجعية موحدة أو هيئة جامعة تضطلع بمهمة الأرشفة أو الكتابة التاريخية. كما تختلف أولويات هذه التيارات، فبعضها لا يرى التوثيق ضمن أولوياته التنظيمية أو لا يملك الإمكانيات الفنية والبشرية اللازمة لذلك، مما يجعل عملية بناء سردية موثقة وشاملة أمرًا بالغ الصعوبة.

1) الشبيبة الإسلامية: النشأة، الأهداف، التحولات، السرية وأثرها على التوثيق

تُعد “الشبيبة الإسلامية” أول تنظيم إسلامي منظم يظهر في المغرب الحديث، وقد تأسست في عام 1969 على يد كل من عبد الكريم مطيع وإبراهيم كمال. ورغم أن بعض المصادر تشير إلى ترخيصها كجمعية مدنية في عام 1972، إلا أن طبيعة عملها كانت تتسم بالسرية والمواجهة مع الدولة، خاصة في سياق الصراع الأيديولوجي مع التيار اليساري في الجامعات المغربية. كان الهدف الأساسي للشبيبة الإسلامية هو نشر الوعي الإسلامي ومواجهة الأفكار العلمانية واليسارية، وبناء جيل جديد ملتزم بالقيم الإسلامية.

تميزت الشبيبة الإسلامية في بداياتها بكونها جماعة ذات توجهات معقدة باتجاه الدولة في بعض الأحيان، وقد ارتبط اسمها بعدة أحداث سياسية مهمة في السبعينيات. هذه الطبيعة السرية والمواجهة أثرت بشكل مباشر على ثقافة التوثيق داخل التنظيم. ففي ظل الظروف الأمنية والسياسية المعقدة، كان الحفاظ على السرية أولوية قصوى، مما أدى إلى عدم تدوين الكثير من القرارات والأحداث بشكل رسمي. كانت المعلومات تنتقل شفوياً، والوثائق إن وجدت، كانت محدودة للغاية وتخضع لإجراءات أمنية مشددة. هذا النقص في التوثيق الرسمي جعل من الصعب جداً على المؤرخين والباحثين إعادة بناء مسار الشبيبة الإسلامية بدقة، والاعتماد بشكل كبير على الروايات الشفوية التي قد تكون عرضة للنسيان أو التفسير الشخصي، مما يمثل تحدياً كبيراً في توثيق تاريخ هذه المرحلة الهامة من تاريخ الحركة الإسلامية المغربية. وقد شهدت الشبيبة الإسلامية انشقاقات وتفككاً تنظيمياً في بداية الثمانينيات، مما مهد لظهور تنظيمات إسلامية أخرى في المشهد المغربي.

2) جماعة العدل والإحسان: التأسيس، المنهج، العلاقة بالدولة، التركيز على العمل الميداني

تُعد جماعة العدل والإحسان واحدة من أبرز وأكبر التنظيمات الإسلامية في المغرب، وقد تأسست على يد الإمام عبد السلام ياسين في عام 1983. جاء تأسيس الجماعة بعد انفصال عبد السلام ياسين عن الزاوية البوتشيشية، وتطويره لمنهج فكري وتربوي خاص يركز على “العدل” كبعد سياسي واجتماعي، و”الإحسان” كبعد روحي وأخلاقي. تهدف الجماعة إلى إقامة مجتمع إسلامي عادل وشامل، وتعتبر نفسها حركة دعوية وتربوية شاملة، لا تقتصر على الجانب السياسي.

تتميز جماعة العدل والإحسان بعلاقة معقدة ومتوترة في كثير من الأحيان مع الدولة المغربية. فرغم أنها غير مرخصة قانونياً كحزب سياسي، إلا أنها تحظى بتسامح نسبي يسمح لها بممارسة أنشطتها الدعوية والاجتماعية، وإن كانت تتعرض للمضايقات والاعتقالات في بعض الأحيان. وقد أدت هذه العلاقة إلى تبني الجماعة لخطاب نقدي تجاه النظام السياسي، مع التركيز على المطالبة بالإصلاح الشامل والعدالة الاجتماعية.

على صعيد التوثيق، تواجه جماعة العدل والإحسان تحديات مشابهة لتلك التي واجهتها الشبيبة الإسلامية، وإن كانت بدرجة أقل حدة. فالجماعة، بحكم طبيعتها الدعوية والتربوية، تركز بشكل كبير على العمل الميداني، والتواصل المباشر مع الأفراد، وبناء القاعدة الشعبية. هذا التركيز على العمل الميداني أدى إلى إهمال نسبي للجانب الإداري والمؤسسي المتعلق بالتوثيق والأرشفة. تعتمد الجماعة بشكل كبير على الذاكرة الشفوية لقادتها وأعضائها في حفظ تاريخها وتجاربها، بالإضافة إلى بعض المطبوعات والمنشورات الداخلية. ورغم وجود موقع رسمي للجماعة ينشر بياناتها ومواقفها، إلا أن الأرشيف المؤسسي الشامل الذي يوثق كافة القرارات والأحداث والتجارب لا يزال غائباً، مما يجعل عملية توثيق مسارها التاريخي أمراً صعباً ويتطلب جهداً كبيراً من الباحثين والمؤرخين الذين يعتمدون على المصادر الشفوية والمذكرات الشخصية بشكل كبير.

3) تحديات التوثيق المؤسسي في الحركة الإسلامية المغربية

تُعد عملية التوثيق المؤسسي ركيزة أساسية لأي كيان يسعى إلى بناء ذاكرة تاريخية، وتراكم الخبرات، وضمان الاستمرارية. وفي سياق الحركات الإسلامية المغربية، تبرز مجموعة من التحديات البنيوية والتاريخية التي أثرت بشكل مباشر على قدرتها على بناء أرشيفات مؤسسية شاملة ومنظمة. هذه التحديات لا تقتصر على الجوانب التقنية، بل تمتد لتشمل عوامل ثقافية، تنظيمية، وسياسية.

3.1. التعددية والتنوع وأثرها على مركزية التوثيق

تتميز الحركة الإسلامية المغربية بتعدد تياراتها وتوجهاتها، من الحركات الدعوية الصرفة إلى الأحزاب السياسية التي تشارك في العملية الديمقراطية. هذا التنوع، وإن كان يعكس حيوية الحركة وقدرتها على التكيف مع مختلف السياقات، إلا أنه يجعل عملية التوثيق الشامل أكثر تعقيداً. فكل مكون من هذه المكونات يعمل بشكل مستقل، وله أولوياته الخاصة، وغالباً ما يفتقر إلى آلية مركزية لجمع وتصنيف المعلومات والوثائق. على سبيل المثال، قد تحتفظ جماعة دعوية مثل العدل والإحسان بسجلات لأنشطتها التربوية أو بياناتها، ولكن هذه السجلات قد لا تكون موحدة أو منسقة مع وثائق تنظيمات أخرى ذات مرجعية إسلامية. هذا التشتت في مصادر المعلومات يجعل من الصعب تجميع صورة متكاملة وموحدة لمسار الحركة الإسلامية المغربية ككل، ويفرض على الباحثين جهداً مضاعفاً لتتبع خيوط المعلومات المتناثرة بين الكيانات المختلفة.

3.2. السرية في مراحل التأسيس وغياب التدوين الرسمي

نشأت بعض مكونات الحركة الإسلامية المغربية، مثل “الشبيبة الإسلامية”، في سياق من السرية والمواجهة مع الدولة، خاصة في مراحلها الأولى. هذه الظروف الأمنية والسياسية القاسية فرضت على هذه التنظيمات تبني ثقافة السرية، حيث كان الحفاظ على أمن التنظيم وأعضائه أولوية قصوى. في مثل هذه البيئات، يصبح التدوين الرسمي للقرارات، المحاضر، أو حتى المراسلات الداخلية أمراً محفوفاً بالمخاطر. فكثير من القرارات كانت تتخذ شفوياً، والمعلومات تنتقل عبر قنوات غير رسمية، مما أدى إلى عدم تدوين الكثير من الأحداث والتفاصيل الهامة بشكل مكتوب. هذا الغياب للتدوين الرسمي يعني أن جزءاً كبيراً من تاريخ هذه الحركات ظل حبيس الذاكرة الفردية لقادتها وأعضائها، مما يجعله عرضة للنسيان، أو التحريف، أو التفسير الشخصي مع مرور الزمن. إن استعادة هذا التاريخ تتطلب جهداً كبيراً في جمع الروايات الشفوية ومقارنتها، وهو ما لا يضمن دائماً الدقة والشمولية التي يوفرها التوثيق المكتوب.

3.3. التركيز على العمل الميداني والتربوي وإهمال الجانب الإداري

لفترات طويلة، ركزت العديد من مكونات الحركة الإسلامية المغربية، وخاصة تلك ذات الطابع الدعوي والتربوي، على العمل الميداني، وبناء القاعدة الشعبية، وتنمية الجانب الروحي والأخلاقي لأعضائها. هذا التركيز، وإن كان ضرورياً لانتشارها وتأثيرها في المجتمع، إلا أنه أدى في كثير من الأحيان إلى إهمال الجانب الإداري والمؤسسي المتعلق بالتوثيق والأرشفة. فالأولوية كانت تُعطى للأنشطة الدعوية، اللقاءات التربوية، والمشاريع الاجتماعية، بينما كانت مهام الأرشفة والتوثيق تُعتبر ثانوية أو غير ذات أولوية. على سبيل المثال، قد تجد تقارير مفصلة عن الأنشطة الدعوية أو التربوية، ولكن قد تفتقر إلى توثيق منهجي للقرارات التنظيمية، أو التطورات الفكرية، أو حتى السجلات المالية والإدارية. هذا الإهمال للجانب الإداري يؤثر على قدرة الحركة على تتبع مسارها، وتقييم أدائها، وتحديد نقاط القوة والضعف في تجربتها.

3.4. الاعتماد على الذاكرة الشفوية للقادة: حدودها ومخاطرها

كما هو الحال في حركات إسلامية أخرى، اعتمدت الحركة الإسلامية المغربية بشكل كبير على الذاكرة الشفوية لقادتها وشخصياتها البارزة في حفظ تاريخها وتجاربها. فشهادات المؤسسين، والقيادات التاريخية، والأعضاء القدامى تُعد مصدراً غنياً للمعلومات حول نشأة الحركة، تطوراتها، التحديات التي واجهتها، والقرارات التي اتخذتها. ورغم القيمة الكبيرة لهذه الشهادات في إثراء الفهم التاريخي، إلا أنها تظل عرضة للنسيان، أو التفسير الشخصي، أو حتى التحريف غير المقصود مع مرور الزمن. فالذاكرة البشرية ليست مثالية، وقد تتأثر بالعوامل الذاتية، أو التغيرات في المواقف، أو حتى مرور الوقت. كما أن وفاة القادة أو ابتعادهم عن المشهد يعني فقدان جزء كبير من هذه الذاكرة الشفوية بشكل دائم. هذا الاعتماد المفرط على الذاكرة الشفوية يفتقر إلى الدقة والشمولية التي يوفرها التوثيق المؤسسي المكتوب، والذي يمكن التحقق منه والرجوع إليه في أي وقت.

3.5. غياب مشروع توثيقي شامل

يندر أن نجد داخل الحركة الإسلامية المغربية مشروعاً توثيقياً شاملاً ومنظماً يهدف إلى جمع وأرشفة كافة الوثائق والقرارات والتجارب بشكل منهجي. فالمبادرات الموجودة غالباً ما تكون فردية، أو محدودة النطاق، أو تفتقر إلى التمويل والدعم الكافي. على سبيل المثال، قد يقوم أحد الأعضاء بجمع بعض الوثائق الشخصية، أو قد تقوم إحدى اللجان بتوثيق جانب معين من عملها، ولكن هذه الجهود لا ترقى إلى مستوى بناء أرشيف مؤسسي متكامل يضم كافة جوانب عمل الحركة. هذا الغياب للمشروع التوثيقي الشامل يعني أن الكثير من المعلومات القيمة قد تضيع، أو تتلف، أو تتشتت، مما يحرم الأجيال القادمة من فهم عميق لتاريخ هذه الحركات وتجاربها. إن بناء أرشيف مؤسسي يتطلب رؤية واضحة، تخطيطاً منهجياً، موارد مالية وبشرية، والأهم من ذلك، إدراكاً لأهمية التوثيق كجزء لا يتجزأ من العمل المؤسسي.

لقد كشفت هذه الدراسة عن أن التجربة المغربية للحركة الإسلامية، بتمثلاتها المختلفة من الشبيبة الإسلامية إلى جماعة العدل والإحسان ، تواجه تحديات بنيوية ومعقدة في مجال التوثيق المؤسسي. هذه التحديات لا تقتصر على الجوانب التقنية أو اللوجستية، بل تتجذر في طبيعة نشأة هذه الحركات، وسياقات عملها، وثقافتها التنظيمية. فالتعددية والتنوع داخل الحركة، والسرية التي لازمت مراحل التأسيس، والتركيز على العمل الميداني والتربوي على حساب الجانب الإداري، والاعتماد المفرط على الذاكرة الشفوية للقادة، كلها عوامل تضافرت لتؤدي إلى غياب مشروع توثيقي شامل ومنظم.

إن غياب التوثيق المؤسسي لا يمثل مجرد نقص في السجلات التاريخية، بل هو عائق حقيقي أمام فهم عميق لمسار هذه الحركات، وتقييم تجربتها، والتعلم من دروسها. كما أنه يحرم الأجيال القادمة من مادة خام أساسية لإعادة بناء تاريخها، ويجعلها عرضة للتفسيرات الشخصية أو التحريف. إن الحركات التي لا توثق تاريخها بشكل منهجي، تفقد جزءاً من ذاكرتها، وتضعف قدرتها على التراكم المعرفي والتطوير المؤسسي.

المصدر: العمق المغربي

شاركها.