أمد/ لطالما ارتبط الحديث عن المقاومة بخطاب عام يفتقر في كثير من الأحيان إلى سند واقعي وقوة دلالية حقيقية. ينبع هذا من معادلة مبسطة: الاحتلال يبرر المقاومة، مما يحرر أفعالها من أي مساءلة عن العواقب. فالمقاومة، بهذا المفهوم الشائع، لا تشترط حسابات دقيقة تشمل الإحاطة بالعدو، التوقيت المناسب، تقدير النتائج وتأثيرها على صمود المجتمع، توفير الغطاء السياسي، أو حتى موازين القوى الدولية ومدى استعداد الحلفاء للدعم وحدوده.

تعتبر اللامبالاة بالعواقب جزءًا لا يتجزأ من مبدأ تقييم أفعال المقاومة بهذا الشكل. فالأبعاد والتداعيات والنتائج تُعدّ من المحرمات التي تُعفي المقاومة نفسها من تحملها. هي تفعل ثم تتنصل من نتائج أفعالها، مُلصقةً إياها بجرائم الاحتلال الذي يُتخذ كغطاء لكل فعل، وكأنها لا تتصرف إلا بدافع. هكذا، تتلازم اللامبالاة والمقاومة، لتجعل المذابح تتكرر والموت يتضاعف.

بعد عملية السابع من أكتوبر وتكاليفها الباهظة، بررت حماس صاحبة الفعل ذلك بعدم توقعها للنتائج. وبعد مرور عام على الحرب، ما زالت تردد نفس المبرر دون مبالاة بالعاقبة. إن هذا التبرير يكشف أن الأمر ليس مجرد عدم توقع، بل هو لامبالاة عميقة ومتفشية. فرغم رؤية أهوال النتائج، ما زالت حماس تصر على موقفها، مما يؤكد أن النتائج ليست جزءًا من حساباتها المنطقية. كان ينبغي حساب الأثر على الناس كافة، لا على مجتمعها العسكري فقط.

على لسان أحد قيادييها، ميّزت حماس بين أرواح المدنيين وتلك التي تُزهق من المقاتلين، حيث اعتبرت أرواح المقاتلين ذات منزلة “أهم”. هذا التمييز يثير تساؤلات حول كيفية تقدير التضحيات ووقعها على المجتمع ككل. وتحمّل الاحتلال مسؤولية القتلى المدنيين، مدعية أن مقاتليها لم يمسسهم سوء. وهنا تكمن الفاجعة: يُنظر إلى المدنيين كبرهان على وحشية العدو الإسرائيلي، وكمادة للاستهداف حين تختبئ المقاومة في مناطقهم وعندما تنغمس بين السكان. يتم فصل المقاومة نفسها تمامًا عن الكوارث التي تحيق بالمدنيين، وتعتبر الخسائر الحقيقية فقط في مقاتليها، وهو ما تنكره الحركة في الوقت نفسه.

ليست هذه القراءة دعوة لإعفاء الاحتلال من المسؤولية، بل هي دعوة ملحة لتحسين الرد على الاحتلال. لا يكفي أن تقاوم، بل يجب أن تُحسن المقاومة. يجب بناء مقاومة ترتكز على تحسين رد الفعل، لا ردود فعل تجعل الأوضاع أسوأ، وتلحق الضرر بقدرة الصمود، ثم تغطي فداحة النتائج بعموميات بالية عن “الواجب الوطني” و”التضحية” من أجل أهداف وطموحات مستحيلة التحقيق.

إن السبب وراء ظاهرة اللامبالاة هذه، وفصل فعل المقاومة عن النتائج، يكمن في أن جهاز المقاومة ونظام التفكير الذي يحركه لا ينطلق من دافع كلي، وهو منفصل عن الناس بدلًا من أن يتلاحم مع شعبه. إنه يخدم فئة مفصولة عن المجتمع، ويختبئ خلف الإبادة الجارية وما تُنتجه اللامبالاة من كوارث.

من المعروف أن النصر بتكلفة عالية يعادل الهزيمة. فماذا تكون الهزيمة بتكلفة عالية؟! هذا ما يقدمه نموذج حماس في مقاومة الاحتلال: الهزيمة بتكلفة باهظة، واللامبالاة بوصفها ترفعًا عن المسؤولية، وتنصلًا من النتائج، وعدم اكتراث بأهوال الدمار. هذا النموذج ينبع أساسًا من انفصال المقاومة عن الناس في أصل نشأة لا مبالاتها. وهو انفصال يفسر تناقضها الداخلي؛ فمن المستحيل الجمع بين السلطة والمقاومة، أو أن تكون المقاومة سلطة أو في خدمة نموذج سلطة تحت الاحتلال. هذا النموذج محكوم بالهزيمة بحكم تكوينه وتركيبته. لقد استنزف نفسه، وتمسكه بغزة أنهكه، وهو نموذج غير مقنع، بل تحول إلى مذبحة ساقها للناس، والأجدر به أن يُبغض. لقد أصبح عبئًا بتكاليفه العالية، وطبيعة طموحاته والفئة التي يخدمها، وطبيعة علاقاته وتحالفاته الإقليمية. وبدل أن يدفع عنا الاحتلال، فإذا به يدله علينا. إنه محكوم بعلة ذاتية، لا بدافع حماسي كبير.

لم تؤثر أفعال المقاومة بهذا النموذج على السلوك الحربي الإسرائيلي. لقد عاشت حركات المقاومة على شعارات “تدمير إسرائيل” و”توازن الرعب”. ولكن عندما فرض عليها الاحتلال معركة حقيقية، تهاوت سريعًا وانكشف عوارها، وتبين أنها مجرد شعارات لإسكات الناس واحتكار الكلام. هذا النموذج غير مؤهل للمواجهة، فشعاراته تنتهي إلى أكاذيب صريحة تغطي على التراجع. وينتهي هذا النموذج لا بتحرير البلاد كما يدعي، بل بدلالة الاحتلال إلينا، وكما قال حازم صاغية بعبارة موجزة: “نُحتل فنقاوم، ونقاوم فنحتل، ونتحول إلى مقبرة كبرى”. لقد أعادت حماس الاحتلال المباشر لغزة بعد أن خرج منها عام 2005، والذي ادعت حينها أنه خرج بضربات المقاومة. وها هو يعود مرة أخرى بسبب المقاومة. الأمر نفسه تكرر في لبنان، فبعد أن انسحبت إسرائيل من الجنوب، عادت إليه مرة أخرى.

ما نقوله ليس دعوة لاستسلام الضعيف أمام القوي. بل القصد هو أن فشل هذا النموذج من المقاومة ليس لأن العدو قوي بتقنياته واستخباراته وقدراته المادية، بل لأن المقاومة نفسها لديها اختلال داخلي كبير هو الذي يجعل العدو يبدو قويًا ويتقدم، وينجح في تعميق سيطرته علينا.

القوة والضعف: رؤيتك للواقع تصنع مصيرك

إن القوة والضعف ليستا مجرد حالتين عابرتين، بل هما نتاج عميق لكيفية إدراكك للواقع والخيارات التي تتخذها بناءً على هذا الإدراك. إنهما تتجليان كـ”ملكة حكم” داخل الفرد أو الكيان؛ فقدرتك على تحليل المشهد المحيط، فهم التحديات، وتقدير الفرص المتاحة، ثم ترجمة هذه الرؤية إلى قرارات حاسمة، هي ما تحدد مسارك. لا تكمن القوة في الإمكانيات المادية وحدها، بل في البصيرة التي تمكنك من رؤية نقاط ضعفك الحقيقية ونقاط قوة خصمك بوضوح، والعكس صحيح. وبناءً على هذه الرؤية الصادقة، تتخذ خياراتك الاستراتيجية. فإذا كانت رؤيتك مشوهة، أو حكمك معوجًا، فإنك تختار مسارات تقودك حتمًا إلى الضعف، حتى لو امتلكت في ظاهر الأمر مقومات القوة. أما إذا كانت رؤيتك ثاقبة ومبنية على فهم عميق للواقع، فإن خياراتك ستقودك نحو تعزيز قوتك، حتى في أشد لحظات الضعف الظاهر.باختصار، القوة الحقيقية تنبع من قدرة على الحكم الرشيد، ورؤية واضحة للواقع، وشجاعة في اتخاذ القرارات الصائبة، تلك التي تتجاوز ردود الأفعال المباشرة وتؤسس لمستقبل أكثر متانة.

قوة غزة في خياراتها البديلة

ندرك في غزة أننا نمتلك قوة كامنة تتمثل في قدرتنا على تبني خيارات بديلة تتجاوز نموذج حماس. هذه القوة لا تنبع من السلاح أو التكتيكات العسكرية فحسب، بل من إدراكنا العميق بأن المستقبل يتطلب مسارًا مختلفًا يعكس تطلعات شعبنا نحو حياة أفضل وأكثر كرامة. إنها قناعة بأن هناك طرقًا أخرى للصمود والبناء تتخطى الأطر العتيقة والمعتادة للمقاومة التي أثبتت أنها مكلفة ومدمرة.

دمج الحيلة في صميم استراتيجياتنا

هنا يأتي دور “الحيلة” كجزء لا يتجزأ من تراثنا واستراتيجيتنا المستقبلية. الحيلة ليست بالضرار مكيدة غادرة، بل هي ذكاء التكيف، براعة التخطيط، والقدرة على إيجاد حلول مبتكرة في مواجهة الظروف الصعبة. هي فن إدارة الموارد المحدودة بفعالية، واستغلال نقاط ضعف الخصم بذكاء، وتحويل التحديات إلى فرص. إن إدماج الحيلة في نسيج تفكيرنا وممارساتنا يعني أن نكون أكثر مرونة، وأكثر إبداعًا، وأكثر قدرة على تحقيق أهدافنا دون التضحيات الجسيمة التي تحملناها. هذه الرؤية الجديدة للمقاومة، التي تتسلح بالحكمة والفطنة، هي السبيل لضمان مستقبل أفضل لأهل غزة.

وعليه، إن الخروج من هذا الوضع المفروض علينا من قبل ميليشيا مسلحة فرضت نفسها بالقوة على الناس، وعالم لا يبالي بآلامنا، لا يوجد أمامنا سوى أنفسنا. من المحظور الوقوع في وهم أننا في طريقنا لتغيير الوضع دون تغيير أنفسنا أولًا، فهذا التغيير الداخلي هو ما سيؤثر في الوضع الخارجي. ما زالت حماس ترفض قبول استحقاق الهزيمة، وعاجزة عن إنقاذ نفسها بحكم قصورها الذاتي، وبالتالي عاجزة عن إنقاذنا. والوضع القائم لا يشغل الحيز الأكبر في تقدير حماس لنفسها ولعلاقتها بالوضع الجديد الذي تشكل بعد السابع من أكتوبر. إنها تتطور في صناعة الوهم عبر خلق رهانات لا توجد إلا في رأسها.

المقاومة الحقيقية تتجاوز كونها مجرد مواجهة عسكرية أو خطابًا سياسيًا نمطيًا، هي، في جوهرها، حركة مجتمعية عميقة تنبع من تحرر حقيقي. إنها مقاومة لا تتشبث بـأغلال الذات وتطلعاتها الضيقة، بل تتجاوز المصالح الفئوية والأجندات الشخصية. المقاومة بهذا المعنى هي خروج من الأنا، واندماج في الوعي الجمعي، حيث يصبح الهدف الأسمى هو خير المجتمع ككل، وليس مجرد تحقيق مكاسب لمجموعة معينة.

هذا التحرر من الذات يفتح الباب أمام مشاركة شعبية واسعة، لا تكون مجرد حشد عشوائي، بل بناء متين قائم على أسس راسخة من التربية والأخلاق. التربية هنا تعني غرس الوعي، التفكير النقدي، والمسؤولية الجماعية، بينما الأخلاق تضمن أن تكون أفعال المقاومة موجهة بالعدل والرحمة، حتى في أشد الظروف قسوة. هذه المقاومة الواعية، المتحررة من الذات والمدعومة بالوعي الأخلاقي والتربوي، هي وحدها القادرة على بناء مستقبل يختلف عن دائرة العنف واللامبالاة الحالية، وتمهد الطريق لظهور قيادات جديدة أكثر التصاقًا بقضايا شعبها وحريصة على مصالحه العليا. وعندما يرى الناس أن المقاومة ليست أداة في يد قلة، بل تعبيرًا أصيلًا عن إرادة الناس، فإن الدعم الشعبي ينمو بشكل عضوي ومستدام. تصبح قدرة المجتمع على التحمل أعمق وأكثر مرونة، لأن الأفراد يشعرون بملكية مشتركة للقضية، وليس مجرد تابعين لقيادة مفصولة عنهم. ومع غياب المصالح الضيقة، يمكن للمقاومة أن تتبنى رؤية أبعد وأكثر واقعية، تحسب بدقة العواقب وتتجنب الأفعال التي تزيد من معاناة الشعب، فتصبح الحسابات الاستراتيجية أكثر رصانة، لا تكتفي بالمواجهة، بل تعمل على بناء أسس مجتمع أفضل، حتى تحت وطأة الاحتلال، من خلال تعزيز القيم، التعليم، والتكافل الاجتماعي، والتجرد من المكاسب الفورية، والحكم تحت الاحتلال.

الحكم تحت الاحتلال: معضلة أفسدت المقاومة

إن فكرة الحكم تحت الاحتلال تشكل معضلة أساسية أدت إلى إفساد جوهر أفعال المقاومة. عندما تتحول المقاومة من حركة تحرر وطني إلى سلطة تسعى لإدارة شؤون الناس تحت نير الاحتلال، فإنها تفقد بوصلتها الحقيقية وتصبح محكومة بتناقضات لا يمكن التوفيق بينها.

هذا التحول يجبر المقاومة على التوفيق بين متطلبات السلطة، التي تشمل إدارة الحياة اليومية وتقديم الخدمات، وبين أهدافها الأصلية في مقاومة الاحتلال وتحقيق التحرير. غالبًا ما يؤدي هذا التضارب إلى:

انفصال المقاومة عن الشعب: بدلاً من أن تكون صوت الجماهير ومعبرة عن تطلعاتها، تتحول المقاومة إلى كيان سلطوي قد يُنظر إليه على أنه منفصل عن هموم الناس، وأحيانًا قد يفرض عليهم أعباءً إضافية.

تغيير الأولويات: تصبح الأولوية القصوى هي الحفاظ على “السلطة” وامتيازاتها، حتى لو كان ذلك على حساب الفاعلية الحقيقية للمقاومة أو تسبب في معاناة أكبر للمجتمع.

فقدان المصداقية: عندما ترى الجماهير أن المقاومة تدير شؤونهم ولكنها لا تحقق اختراقاً حقيقياً في مواجهة الاحتلال، بل قد تُساهم في تكريس وجوده بشكل أو بآخر، فإن ثقتهم تتآكل.

تبني اللامبالاة بالعواقب: في سبيل الحفاظ على “الكرسي” أو “النفوذ”، قد تغض المقاومة الطرف عن التداعيات المدمرة لأفعالها على المدنيين، وتلقي باللوم كله على الاحتلال دون مراجعة ذاتية. هذا ما يُفسر فكرة “اللامبالاة” التي تحدث عنها المقال الأصلي.

باختصار، فإن الخوض في غمار “الحكم تحت الاحتلال” يجعل المقاومة أسيرة لديناميكيات لا تخدم قضيتها الأساسية. إنها تخلق تناقضًا جوهريًا بين رغبة التحرير ومتطلبات الإدارة في ظل القيد، مما يؤدي في النهاية إلى إضعاف فعل المقاومة وتحويله إلى عبء، بدلًا من كونه قوة دفع حقيقية نحو الحرية

ختامًا، يحدونا الأمل في تشكل قوى فلسطينية جديدة قادرة على رتق هذا الاختلال الداخلي في بنية المقاومة، انطلاقًا من حمل فكرة تغيير أنفسنا كبرنامج عمل للخروج من هذا الوضع، والحيلولة دون تكراره في المستقبل.

شاركها.