خالد فضل
اطلعت على كلمة منشورة للأستاذ علي عسكوري يحذّر فيها من انفجار وشيك في الإقليم الشمالي (ولايتي نهر النيل والشمالية) بسبب التهميش وتدني الخدمات والفقر الذي يواجه مواطني الإقليم , رغم وسمهم بالجلابة المحتكرين للسلطة والثروة المركزية . قبل إسبوع كنت نشرت كلمة على موقع الراكوبة بعنوان الوسط بين تجريم الأطراف وتهشيم المركز , استلهمت فكرتها من خلال بعض ما دار في حوارات بيني وبعض الأشخاص المهتمين من أبناء الجزيرة مقرونا بتجربتي الشخصية خلال وجودي عندما اجتاحت قوات الدعم السريع ولاية الجزيرة . خلاصتها أنّ التهميش يكاد يكون شاملا , وهو مرتبط بشكل وثيق بغياب مشروع وطني هادي وعقد إجتماعي قائم على العدالة والمساواة والحرية لجميع تعدديات وجهات السودان .
قبل سنوات , على ايام حكومة الفترة المدنية الإنتقالية بقيادة د. عبدالله حمدوك وتحالف الحرية والتغيير , أجرى مركز الألق للخدمات الإعلامية ومقره الخرطوم ؛ دراسة استقصائية بقيادة الزميلة الصحفية مديحة عبدالله , في مناطق التعدين بولاية نهر النيل منطقة العبيدية , وإذ وفرت أجواء تلك الفترة حرية نسبية للعمل الصحفي الإستقصائي جاءت الدراسة معمقة ومدعومة بالمشاهدات واللقاءات الحرة مع المستهدفين . وما خلصت إليه تلك الدراسة من آثار بيئية وإقتصادية وإجتماعية مما يستحق النظربالفعل , ومما أذكره أنّ المحررة قالت إنّ المعدنين في المنطقة قالوا إنّ تلك الزميلة كانت المرأة الثانية التي تزور تلك المناطق الرجالية المحضة , أما المرأة الأولى فكانت د. آمنة المكي ولاية الولاية حينذاك . وعلى ذكر بت المكي , فقد شاهدت في تلك الحقبة فيديو لمحفل قبلي لأحد المكونات الكبيرة والمعروفة في الولاية , قال المتحدث منهم باسم مجلس الشورى ؛ وهو من منتسبي المؤتمر الوطني المحظور حينها : إنّ مشكلة الولاية تكمن في تلك (المرة) في إشارة إلى والية الولاية . فيما كانت دراسة استقصائية جريئة تقودها (مرة) أخرى بلغة ذلك الفحل , تكشف عن مآسي بيئية واقتصادية واجتماعية خطيرة كانت الوالية المسكينة تكافح لمعالجتها ضمن همومها الوطنية .
هنا نلمح جزءا من معضلة التهميش التي أشار السيد عسكوري إلى همهمات أهل ولايته بالشكوى منها . فإذا كان مجلس شورى لقبيلة كبيرة ومؤثرة في السيطرة على مقاليد القيادة في مفاصل جهاز الدولة كلها من الرئيس إلى بقية المؤسسات يرى المشكلة في ولايتهم يمثلها وجود حاكم (مرة) فهذا مدعاة للتأمل في دعاوى التهميش من اساسها قبل الجهر بها وبمترتباتها التي توشك على الإنفجار حسبما كتب عسكوري . التهميش هنا ثقافة ذاتية فيما يبدو تتخلل وعي النخب والقيادات , ليأتي قسمة موارد الذهب وغيرها في درجة اقل . ولعل الأستاذ عسكوري بما أتيح له من وعي ؛ وقد كان أحد المؤيدين لمشروع السودان الجديد بقيادة الراحل د. جون قرنق _عليه الرحمة_ قد فهم التهميش وممارساته غير المرتبطة بمن ولكنها بشنو , لذلك يبدو نشاط تيار في أوساط مواطني الولايتين ينظر إلى مسألة العاملين في التعدين ونسبتهم ثلث القوى العاملة فقط بينما الثلثين من ولايات أخرى , وكأنّما التهميش هنا مرتبط بمن ؟ وهو عكس مفهوم السودان الجديد الذي ينظر إلى الممارسات الضارة بالإجتماع البشري في دولة السودان غض الطرف عن ممن صدرت . وإذا سرنا بمعيار أهلنا الذين نقل عسكوري رايهم كتيار عريض , نمضي بسهولة لعمل جرد سريع لأبناء الولايتين المسيطرين على المواقع والمناصب القيادية في كل مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية والإقتصادية , فنسبتهم تتجاوز 80% على أقل تقدير , فيما التهميش يعم كل أرجاء السودان وتحت إدارتهم , مما يعني الفشل في الإدارة والحكم والقيادة في كل المؤسسات , فهل هذا المعيار صحيح ؟ أم أنّ الأصح هو فشل مشروع الحكم نفسه وبالتالي فشل الأفراد لغياب المشروع الوطني والعقد الإجتماعي الناظم لإدارة الشعب بتعددياته المعلومة وجهاته المعروفة .
عطفا على ما تقدم فإنّ الحلول التي تطرحها التيارات الثلاثة السائدة وسط المواطنين في الولايتين ونقلها عسكوري بوضوح محذرا من تفاقم الغبن لدرجة الإنفجار , وهي المناداة بانفصال الإقليم من بقية السودان , ومنع استخدام مورد الذهب كثروة قومية بوساطة السلطة المركزية , أو التيار الثالث الدعوة لإنضمام الإقليم إلى جمهورية مصر وترك السودان بما حمل .
هل يمكن النقاش حول دواعي هذا الغضب الشعبي لحوالي 2 مليون مواطن هم تقريبا تعداد سكان الولايتين وفق آخر إحصاء . قل 4 مليون بإعتبار عودة ابناء الولايتين المنتشرين في بقية الأنحاء والمتمركزين في الخرطوم بشكل خاص .
نعم الغضب مشروع من تدني مستوى الخدمات المتاحة لعامة الناس , ومن عمليات نهب الموارد كالذهب , وهي مؤشرات حقيقية على التهميش , بيد أنّ عناصر من ابناء الإقليم يشتركون مع الأسف في كل هذه الموبقات إما مباشرة أو غض الطرف عنها رغم سيطرتهم على مناصب مفصلية في الأجهزة الأمنية والعسكرية بصورة خاصة . فهل يوجه سكان الولايتين غضبهم لمواطنين آخرين فقراء كادحين يتحملون ظروف العمل القاتلة في التعدين الأهلي وسط ظروف لا إنسانية تحدق بهم المخاطر والإنهيارات والإنبعاثات السامة , لمجرد أنهم من أنحاء السودان الأخرى ؟ أو من مجموعات قبلية وجهوية موسومة بالتمرد .
لقد سمعت رواية ممن أثق في صدق روايته من المستنيرين من ابناء نهر النيل , يستنكر وقوع حوادث طرد وإعتقالات تطال ابناء غرب السودان في مناطق التعدين . كما نشرت أخبار قبل شهور عن تمرد جماعة مسلحة ضمن المقاومة الشعبية ترفض هيمنة عناصر الإسلاميين على المقاومة الشعبية , وتطالب ضمن مطالب أخرى بطرد أبناء غرب السودان تحديدا من مناطق التعدين بحجة أنهم طابور خامس للدعم السريع . في هذه الاثناء تتداول معلومات عن ايلولة مناجم وممتلكات الدعم السريع إلى أفراد أو شخصيات إعتبارية _اسمية_ من المنتمين لتنظيم المؤتمر الوطني والإسلاميين من ابناء الإقليم . فما هي السلطة المركزية التي يجأر من جورها وعسفها وظلمها أهلنا في الإقليم الشمالي ؟ أ هي سلطة وحكومة تأسيس (قيد الإنشاء) أم سلطة البرهان ومن قبله البشير وعلي عثمان وكرتي وأسامة عبدالله وكمال عبداللطيف ونافع وعبدالباسط حمزة والفريق الحسين وجمهرة اللواءات والفرقاء والعمداء من صلاح قوش وعوض الجاز .. إلخ أم سلطة المرحومين إبراهيم عبود وجعفر النميري وحفيد المهدي الصادق . أم هي سلطة (للساق) التي ينعم بها مناوي وجبريل وعقار وسلوى بنية وأردول , ويناوشهم فيها الجاكومي والمصباح طلحة وعمسيب ؟
المحبة والتقدير لكل أهلنا في الإقليم الشمالي , فهو الإقليم الذي انجب وما فتئ , وردي ومحجوب شريف حميد ومصطفى عبدالخالق والطيب صالح والتجاني الطيب والمحجوبان , وعبدالله الطيب ومحمد المهدي والدوش عاطف خيري وصديق أحمد فيصل بابكر وجعفر حسن ومحمد صديق هو قطار عطبرة ومؤئل الثورة وأعمدة الإقتصاد أسامة داؤود ووجدي وغيرهم في مختلف المجالات وأزهري ابن المكنية وأصدقائي وزملائي الكثر الميامين والصديقات والزميلات , وألاستاذ حسبو وأسرته النبيلة وأستاذنا قدورة وشباب باهر في العبيدية ؛ خضر وأخوانه , وأصدقاء ملء السمع والمرؤة والكرم ينحدرون من هذا الإقليم وينتشرون في كل بقاع السودان بطابع المحبة والوئام والسلام .
المسألة تحتاج إلى نظر حصيف ومشروع وطني وعقد إجتماعي منصف وشفاف , وتأسيس بلد يسع الجميع , فتكامل الجهات والأعراق والموارد وفق معادلة رشيدة ونظام ديمقراطي ودولة لا مركزية علمانية ديمقراطية من شأنه إدارة التنوع وحفظ الحقوق ونهاية شكاوى التهميش وغبائن الحرب وخطاب الكراهية المقصود . حربنا جميعا وجهتها الصحيحة , هي مركز دعوات الفرقة والشتات بمختلف اللافتات , مركز الهيمنة الشخصية وتدوير الثروات لمنافع خاصة والفساد . عندها سيكون للإقليم الشمالي شأن ضمن كل الأقاليم الواعدة بالخير , التحرير من شنو هو بيت القصيد وليس كما يشيع المنافقون من منو؟ وعسكوري من الواعين بذلك إن لم أك مخطئ في التقدير .
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة