انتهت المواجهة بين النظام السوري الجديد والجماعات الدرزية المسلحة في محافظة السويداء بخروج القوات السورية منها، وترك مسألة «الحفاظ على أمنها» للقوات المسلحة المحلية وفق خطاب الرئيس الشرع صباح أمس.
الشرع ذكر في خطابه أن ذلك كان حصيلة تفاهمات بين نظامه ومشايخ الطائفة الدرزية، متجاهلاً الإشارة الى أن هذا الاتفاق كان محصلة التدخل الأميركي الذي أعلن عنه مسبقاً وزير الخارجية الأميركية ماركو روبيو والذي بشر بأن الهجوم الإسرائيلي على قوات النظام السوري سينتهي مساء الأربعاء.
في خطابه، قال الشرع بأن حرباً بين «سورية والكيان الإسرائيلي» كادت تحدث لولا تدخل الوسطاء الأتراك والعرب والأميركيين، متجاهلاً أن هذه الوساطة هي التي أدت الى ما تريده دولة الاحتلال وهو إبقاء المناطق الدرزية خارج سيطرة الدولة السورية.
بكلمات أخرى، لم يكن خروج الدولة السورية من محافظة السويداء نتيجة اتفاق مع مشايخ العقل الدروز، ولكن نتيجة قبول النظام السوري بالشروط الإسرائيلية والتي تم فرضها من خلال الولايات المتحدة وبرعاية تركية على النظام الجديد في سورية.
هذا الانتصار لدولة الاحتلال يوم ١٧ تموز هو المقدمة لتفكيك الدولة السورية عبر تقسيمها الى دوليات: واحدة للأكراد وواحدة للدروز وواحدة للعلويين، وجميعها على الطريقة العراقية (حكم ذاتي كامل).
يُذكرنا خطاب الشرع والذي قال فيه «لسنا ممن يخشى الحرب لكننا قدمنا مصلحة الشعب على الفوضى وكان خيارنا الأمثل حماية وحدة الوطن، ولن نسمح بجر سورية لحرب جديدة» يذكرنا بمواقف النظام البائد من حيث تفضيله حماية النظام على حماية الوطن، ومن حيث قدرته على جمع المتناقضات معاً وتحويلها الى انتصار عبر كلمات جوفاء لا معنى لها.
مصلحة الشعب على الفوضى: كيف يكون ذلك بخروج الدولة من جزء من أرضها وتركها للعصابات المسلحة المتحالفة مع إسرائيل؟
حماية وحدة الوطن: هل أصبحت السويداء جزءاً من الوطن أم تحولت الى «دولة مستقلة» تطالب بفتح معابر لها مع الأردن ومع جماعات سورية أخرى مثل «قسد» مُنفصلة عن الدولة؟
جر سورية الى حرب جديدة: هل التنازل لدولة الاحتلال يمنعها من التدخل في الشأن السوري ويفرض عليها الانسحاب من الأراضي السورية التي تحتلها؟
الحقيقة أن ما يقوم به الشرع اليوم هو تكرار لما قام به نظام الأسد، ويمكن تلخيص ذلك في ثلاث نقاط:
الأول: نظام الأسد لم يمتلك إرادته المستقلة وتصرف مثلما أملى عليه رعاته، وكذلك يفعل نظام الشرع.
نظام الأسد كان أسير مواقف الدول التي حافظت على بقائه خلال الحرب الأهلية وتحديداً روسيا، فهي التي كانت تقرر ما يجب وما لا يجب أن يقوم به النظام، لأنه كان يعتمد على قواتها الجوية لضرب المعارضة، ولأن عضويتها الدائمة في مجلس الأمن الدولي كانت تمنع صدور قرارات دولية بحقه. أما الحلفاء الآخرون مثل إيران وحزب الله، فكان تأثيرهم عليه أقل بكثير بسبب حاجتهم هم له، لأن سورية كانت بالنسبة لهم جغرافيا ضرورية للحفاظ على خطوط إمداد المقاومة ضد إسرائيل.
في المقابل، نظام الشرع هو رهين رُعاته في تركيا، فهي من قامت وتقوم بتسليحه وتمويله، وهي التي حافظت عليه في إدلب عندما تمكن النظام القديم من «الانتصار» على المعارضة وطرد قواتها من كل سورية تقريباً وتجميعها في تلك المحافظة. وتركيا هي التي دخلت في مواجهة مع النظام القديم أكثر من مرة من أجل الحفاظ على وجود جماعة هيئة تحرير الشام في إدلب، وهي التي استفادت من الحرب الإسرائيلية على غزة والتي تم خلالها تكثيف الغارات الإسرائيلية على قوات نظام الأسد الى اللحظة التي انهار فيها جيشه. اليوم توجد دول عربية أخرى تحاول رعاية نظام الشرع، لكن النظام الجديد يبقى أسير ما تطلبه تركيا منه، بما في ذلك علاقاته مع الدول العربية التي تحاول رعايته.
الثاني: إن نظام الأسد أرسل الكثير من الرسائل لإسرائيل لطمأنتها بأن لا نية له لمحاربتها وبأنها هي بحاجة له، وكذلك يفعل نظام الشرع.
نظام الأسد حاول إخافة إسرائيل من الجماعات الجهادية والتكفيرية التي تحاربه على أمل أن تتوسط له إسرائيل لدى واشنطن حتى لا تقوم بدعم هذه الجماعات ضده. هل تذكرون مقال رامي معلوف، ابن خال بشار الأسد في صحيفة نيويورك تايمز العام ٢٠١١، والذي قال فيه في بداية الحرب الأهلية السورية «لن يكون هناك استقرار في إسرائيل إذا لم يكن هناك استقرار في سورية» وأن السلفيين هم البديل عن نظام الأسد؟ معلوف كان يخاطب إسرائيل لتتوسط له لدى واشنطن.
نظام الشرع أيضاً يمشي على نفس الخطى، فهو منذ استيلائه على السلطة في سورية لم يكف عن إرسال الرسائل لطمأنه إسرائيل بأنه لا ينوي محاربتها، وأن كل ما يريده هو السلام، وبأن كلا البلدين لديهم أعداء مشتركون مثل إيران وحزب الله، وبأنه جاهز لتنفيذ جميع الشروط الأميركية (وهي حقيقة شروط إسرائيلية) بما في ذلك طرد الجماعات الفلسطينية المسلحة من سورية، وأكثر من ذلك هو دخل معها في مفاوضات مباشرة وغير مباشرة.
الثالث: أن نظام الأسد استسهل قتل شعبه والتزم الصمت عندما كانت إسرائيل تعتدي على قواته، وكذلك يفعل الشرع.
نظام الأسد لم يتوقف عن استخدام البراميل المتفجرة ضد شعبه خلال أكثر من عشر سنوات من الحرب الأهلية، بينما كان يدعي أنه يقاتل «التكفيريين» فقط، في الوقت الذي لم يطلق فيه رصاصة واحدة على دولة الاحتلال التي كانت تضرب قواته وقوات حلفائه من حزب الله وإيران بشكل يومي تقريباً.
نظام الشرع لم تكن لديه مشكلة في ارتكاب مجازر جماعية في الساحل السوري راح ضحيتها الآلاف من شعبه خلال أيام معدودة ولأسباب طائفية، وهو أيضاً لم يطلق رصاصة واحدة ضد إسرائيل عندما كانت تدمر بمئات الغارات كامل المخزون السوري من السلاح النوعي الذي تركه خلفه نظام الأسد. والنظام الجديد لم يقم حتى بالدفاع عن نفسه عندما قامت دولة الاحتلال بقصف قواته ومقارها لمنعهم من الانتشار في الجنوب السوري.
هنالك غباء مطلق يحكم عقلية النخب العربية عموماً، سواء كانت في السلطة أم في المعارضة.
لم تتوصل هذه النخب الى يومنا هذا وبرغم كل التجارب المريرة التي عاشتها بنفسها الى الحقيقة الساطعة كالشمس، بأن الطريق الى التنمية الاقتصادية والطريق الى الحرية والطريق الى وحدة أراضي الدولة الواحدة (وليس فقط وحدة الدول العربية) لا يمر ولا يمكن أن يمر دون الخلاص من الهيمنة الإسرائيلية على العالم العربي. الهيمنة الإسرائيلية تتطلب الحفاظ على الدول العربية ضعيفة، ممزقة، شعوبها جوعى، أذلاء، وفاقدين للحرية والكرامة الوطنية.