عاطف عبدالله
في بلدٍ يرزح تحت وطأة حربٍ أهلية مفتوحة وصراعٍ محموم على السلطة كالسودان، لا يُعد خطاب الكراهية مجرد زلة لسان أو تجاوز أخلاقي. بل يتحوّل إلى سلاح فعّال يُوظَّف بوعي وقصدية، لتمزيق ما تبقى من النسيج الوطني، ولإشعال المزيد من الحرائق في مجتمعٍ منهك ومتعب.
حين تعجز الأطراف المتحاربة عن تحقيق الحسم العسكري، تلجأ إلى الكراهية كأداة من أدوات الحرب، فتُشيطن خصومها وتجردهم من إنسانيتهم، تمهيداً لتبرير العنف ضدهم، بل وقتلهم. ولعلّ أوضح مثال على هذا الانحدار هو ما قاله أحد أبرز المطلوبين لدى المحكمة الجنائية الدولية، أحمد هارون: “أمسح، أكسح، قشو، ما تجيبو حي، أكلو ني”. هذا الخطاب لم يبقَ في مستوى الكلمات، بل تجسّد في مشهد مروّع لوحشية متطرفة، حين ظهر أفراد يرتدون زي الجيش السوداني وهم ينهشون جثمان قتيل ويمضغون كبده، في مشهد يُلخّص إلى أي مدى يمكن للكراهية أن تُفرغ الإنسان من كل قيمة.
على الجهة الأخرى، برز في ثورة ديسمبر خطاب مضاد يعزز قيم التسامح والاحترام المتبادل، ويجسد حلم الوحدة في مواجهة أدوات التفتيت والتقسيم. خرج الشباب إلى الشوارع يهتفون : “يا العنصري ومغرور … كل البلد دارفور”، في رسالة واضحة ترفض التمييز وتُعلي من شأن المواطنة الجامعة.
غير أن الخطاب العدائي سرعان ما عاد يتغلغل بعمق في مفاصل الصراع، عبر تسييس الهوية وتقسيم المجتمع وفق سرديات حربية متعارضة. فقد صُوّر الجيش بوصفه “حارس العقيدة” في مواجهة “المتردية والنطيحة”، في إشارة مهينة لقوات الدعم السريع، التي تُقدَّم في الإعلام الرسمي كغزاة من عرب الشتات. في المقابل، تروّج بعض روايات الدعم السريع لفكرة أنهم يمثلون “ثورة الهامش” ضد نُخب المركز، وأن “دولة 56” هي أصل البلاء ومسؤولة عن كل المآسي.
وفي غمرة هذا الاصطفاف الخطابي، تتعرض الحركات المدنية والنشطاء، أصحاب الخيار الثالث الداعي إلى التحول المدني الديمقراطي، لهجمات مزدوجة من كلا الطرفين. هؤلاء الذين يهتفون “العسكر للثكنات والجنجويد يتحل … ومدنييييية”، يُوصمون بالخيانة والعمالة، أو بالانتماء إلى ما يُصوَّر على أنه “حضن الأجنبي المتربص بالدولة السودانية”. بل ويُتّهمون بأنهم امتداد لدولة 56 التي يجب ـ في نظر البعض ـ تهشيمها وتفكيكها بالكامل، لبناء “سودان جديد” على أنقاضها، في استدعاء مباشر لمنطق الإقصاء والإلغاء لا الإصلاح ولا المشاركة.
مثل هذه السرديات تعمّق الانقسام العمودي داخل المجتمع، وتُعيد إنتاج صورة “العدو الداخلي”، ما يجعل أي مصالحة وطنية مستقبلية مهمة شاقة، إن لم تكن مستحيلة. وقد يؤدي الأمر إلى إعادة إنتاج سيناريو الانفصال، كما حدث مع جنوب السودان، حيث تراكمت مشاعر الغضب والتهميش والتشظي، بفعل خطاب كراهية استمر لعقود حتى بلغ مرحلة الانفجار.
ولا يتوقف الخراب عند حدود السياسة أو الجبهات القتالية، بل يمتد إلى أعماق الحياة اليومية، حيث يتسلل خطاب الكراهية إلى المدارس، والحوارات العائلية، ومنصات التواصل الاجتماعي، بل وحتى الأغاني والنكات. يتكرّس بذلك ما يمكن وصفه بـ”الفرز الأخلاقي” داخل المجتمع، حيث تصبح ثقافة الإقصاء، والعداء، وشيطنة الآخر هي القاعدة لا الاستثناء.
وحتى إذا وضعت الحرب أوزارها، فإن خطاب الكراهية سيبقى من أخطر العقبات أمام أي مشروع لبناء السلام. فهو يُغذي رغبة الانتقام، ويُقوّض أسس العدالة الانتقالية، ويُضعف الثقة بين مكونات المجتمع، ويشوّه وعي الأجيال الجديدة التي تنشأ في بيئة مسمومة بالكراهية والتمييز، يصعب فيها تخيل وطن يتسع للجميع.
لذلك، فإن مواجهة خطاب الكراهية لم تعد ترفاً ثقافياً ولا مطلباً نخبوياً، بل أصبحت ضرورة وطنية ووجودية. على النخب السياسية والدينية أن تكفّ عن التجييش والتحريض، وعلى وسائل الإعلام أن تتبنى مواثيق أخلاقية صارمة تمنع نشر خطاب الكراهية وتفضح رموزه، وعلى منظمات المجتمع المدني أن ترفع صوتها بقوة ضد هذا الانحراف الخطير. فالكلمات، كالرصاص، قادرة على القتل. ولا يمكن أن يكون هناك سلام، دون كبح لخطاب الكراهية، ولا وطن حقيقي دون لغة تحترم الإنسان، أيًّا كان موقعه أو اسمه أو لونه.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة