ظِلَال القمــــــر
عبدالرحمن محمـــد فضــل
في صباح مشوبٍ بالحزن والوجع، وتحديدًا في يوم السبت الثاني عشر من يوليو 2025م الموافق السابع عشر من شهر محرم لعام 1447هـ أسدل الستار على فصلٍ عظيمٍ من فصول حياتي، برحيل والدتي رحمها الله إلى جوار ربها، تاركة وراءها فراغًا لا يسده شيء، وجرحا لا يندمل وألمًا لا يعرفه إلا من ذاق فقدان الأم .
إن فقد الأم ليس مجرد حدث عابر، بل انه زلزال يهز كيان الإنسان من أعماقه فالأم ليست فردًا في حياة الإنسان، بل هي الحياة ذاتها وبكل تفاصيلها هي الدفء إن اشتدت البرودة، والحنان إن جار الزمان، والعزاء إن تكالبت الهموم وإذا غابت الام تنطفئ أنوار كثيرة ويخبو بريق الأيام وتُصبح الحياة مجرد محطات خالية من الفرح، الأم عطاء لا ينضب لان الأم هي منبع العطاء اللامحدود هي من تُعطي دون أن تنتظر مقابلًا، وتُضحي بسعادتها من أجل أبنائها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
“أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك”
(رواه البخاري ومسلم) هذا التكرار في الحديث الشريف لم يكن عبثًا، بل لتأكيد عظمة مكانتها، وعلو شأنها
وعمق أثرها في حياة كل إنسان ويكفينا أن نعلم أن بر الوالدين، وعلى رأسهما الأم قد قرنه الله تعالي بطاعته فقال﴿وَقَضىٰ رَبُّكَ أَلّا تَعبُدوا إِلّا إِيّاهُ وَبِالوالِدَينِ إِحسانًا (الإسراء 23) فحين ترحل الأم تنكسر الروح لأن فقدان الأم ليس كغيره من الفقد، فمهما كانت قسوة الحياة، تظل الأم السند الأول بعد الله عز وجل وتظل هي الملاذ الأخير للانسان وعندما ترحل، يشعر الإنسان وكأنه بات وحيدًا، مهما كثر من حوله لان برحيلها تنكسر النفس، ويتشظى القلب، وتُصبح الذكريات هي سلواه الوحيدة وقد قال الشاعر
الأم مدرسةٌ إذا أعددتها
أعددت شعبًا طيب الأعراقِ
وإذا غابت المدرسة، فمن أين نتعلم الحب؟ ومن اين نتعلم في مدرسة الحياة؟ ومن أين نستمد القوة والطاقة؟ ومن أين ننهض اذا سقطنا وتعثرنا؟ وهنا يطوف في خيالي تلك المواقف من السيرة النبوية في لحظة مشابهة لما اشعر به الان حين وقف النبي محمد صلي الله عليه وسلم عند قبر والدته “آمنة بنت وهب” في الأبواء، وهو القوي الثابت، فبكى حتى أبكى من حوله قيل له : “ما يبكيك يا رسول الله؟” قال
“أذْكرتُها، فبكيت”(رواه مسلم)
هذا هو الحبيب المصطفى عليه افضل الصلاة والسلام الذي فقد أمه صغيرًا، وما زال حنينه لها يلازمه حتى الكبر، فما بالنا نحن الذين نشأنا في أحضان أمهاتنا وارتوينا من حنانهن سنين طويلة؟ وكم من صغير فقد امه وهو في بواكير عمره النضير ولايستشعر هذا الشعور الصعب الا حين يفقد الانسان امه ورحيل الام عن الانسان وهو طفلا اشد الما ووجعا حيث يظل طيف امه مابقي في هذه الحياة ويظل جرح “الفؤاد” نازفا حتي الممات حيث لا يعوّض غيابها شيء الأم لا يعوّضها أحد، ولا يملأ مكانها شيء قد تعود الأشياء التي نفقدها، وقد نجد بديلًا لكل شخص أو دور في الحياة، إلا الأم فهي الجذر الذي يربطنا بالحياة، والماء الذي يُبقي قلوبنا خضراء نابتة يانعة مخضرة زاهرة في هذه الحياة
حين قال النبي صلى الله عليه وسلم
“رغم أنفُ، ثم رغم أنفُ، ثم رغم أنفُ من أدرك والديه عند الكِبر أحدَهما أو كليهما، ثم لم يدخل الجنة”
(رواه مسلم) فهو يذكّرنا بأن وجود الوالدين، والأم خاصة، فرصة ذهبية للخير والبر، فإن ذهبت هذه الفرصة، فلن تعود الي ابد الدهر، عند رحيل أمي، انفتحت أبواب الذاكرة فجأة، وانسكبت منها صور لا تُنسي رأيتها هناك، على صعيد عرفات، حيث كانت عيناها تتضرعان إلى السماء وقلبي يتشبث بتلك اللحظات الخالدة تذكّرت النفرة إلى المزدلفة، وصباح العيد في منى، وأيام التشريق التي كانت تتسرب من بين أيدينا كأنها لحظات نورانية لا تشبه الزمن تذكّرت خطواتنا المتوضئة بالطاعة في الطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة وفي إحدى المرات، حين حاولت أن أستأجر لها كرسياً متحركاً لتخفيف عنائها، رفضت ضاحكة وقالت بمرحها المعهود”إنت قايلني عجوز؟! أنا الحمد لله بصحتي الظاهر إنك إنت التعبان وعايز الكرسي!” ثم انطلقت مهرولة بين العلمين الأخضرين بين “الصفا والمروة” متجه نحو المروة، نازعة من قلب الحرم سباقاً من الضحك والتحدي، فازت به كما كانت تفوز دائماً بابتسامتها، بمرحها، بصفائها وطيبتها، تذكرت أماكن صلينا فيها معًا في أروقة المسجد الحرام، وتلك الجلسات الهادئة في ساحاته الرحبة، نستظل بظلال الكعبة ونرتوي من ماء زمزم الطهور تذكرت رحلاتنا وسفرنا بالسيارة، بين مكة وجدة، والطائف، والقنفذة، والليث، ومحايل عسير، وأبها، مدنٌ وطرقاتٌ وسهول وجبال، كانت يوماً تضج بالحياة، بأحاديثها، بدعائها، بنظرتها للسماء فأصبحت بعد رحيلها مجرد ذكريات ضاربة في أعماق نفسي، لا تموت نعم لقد رحلت أمي، لكن صوتها ما زال في أذني، وخطاها ما زالت في قلبي وذكراها التي لا تغيب، هي الزاد الوحيد في رحلتي نحو المدى.
ومضة اخيرة
الورود والازهار وحنين الطريق وأشواك الفقد، اليوم وقد رحلت أمي إلى دار الخلود، تذكّرت كلماتها التي طالما رددتها على مسامعي، تقول “يا بني ان السير في طريق الله، وافراد العبودية والوحدانية له كالسير في درب مفروش بالورد تحفه الأزهار وتُظلله السكينة أما الشرك ومعصية الله، فذاك طريقٌ مجدب، تملؤه الأشواك، ويكتنفه الظمأ والتيه، كصحراء يباب لا يُرتجى فيها خُضرة ولا أمان.” كم كانت تلك الكلمات عميقة، حتى أنني اليوم أسمع صداها كأنها تُقال من جديد لكن هذه المرة، دون أن أرى عينيها أو ألمح ابتسامتها
كل الطرق التي مشيتها يومًا معها، كانت مُزهرة، معطّرة برياحين الحنان، ومحفوفة بأمان قلبها كانت خطواتي برفقتها خفيفة، والأيام معها كأنها أعراس من نورأما اليوم
فكل الدروب بعد رحيلها، وإن ازدانت بزهورها، تبقى خالية من دفء الأم وكل المسافات التي أقطعها دونها، مثقلة بالشوق، ومليئة بصدى الغياب، رحمكِ الله يا أمي، فقد كنتِ وردة العمر، وضياء الطريق .
اليوم في وداع أمي، أدركت أن بعض الفواجع لا تُشفى، وأن الحياة بعد الأم لا تُعاش بنفس الطعم لكننا نستسلم لحكمة الله، ونرجو رحمته، وندعو كما علّمنا نبيننا عليه الصلاة والسلام “اللهم اغفر لها وارحمها وعافها واعف عنها وأكرم نزلها ووسع مدخلها واغسلها بالماء والثلج والبرد، اللهم اجعل قبر أمي روضة من رياض الجنة، واملأه نورًا وسرورًا ورضًا واجعل برّها حيًا في قلبي ما حييت، ربي اغفر لامي وارحمها فأنها ماتت وتشهد انك الله الواحد الأحد الفرد الصمد ربي اغفر لي والمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات .
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة