منعم سليمان

في صورةٍ التقطتها عدسة عائلية مصادفة، أو ربما عينٌ أرادت أن تروي حكاية، يظهر المصباح أبو زيد، قائد ميليشيا الموت، البراء بن مالك، وهو يلعب مع طفله الصغير في شقةٍ آمنة في القاهرة.

الصورة ناعمة، رقيقة، مشبعة بالعاطفة،
يبتسم فيها الطفل الوسيم في حُبور، وتُرخي البراءة سدولها على المشهد، لكنها في عمقها إذا أُعيد تأملها تُشبه وردةً نبتت فوق جثّة.

طفلٌ بريء وجميل يمرح بين ذراعي أبيه، غير مدرك أن هذا الأب نفسه هو الذي فكّك روابط الأبوة على امتداد مساحة السودان، وأن هذه اليد التي تُلاعبه، هي ذاتها التي حرمت أطفالًا آخرين من سند الأبوة، ودفعت بجيلٍ كامل إلى الموت والجوع، ولوّنت ضفاف الوطن بلون الدم، وحوّلت رائحة أرضه إلى رائحة الموت.

المصباح في هذه الصورة، أبٌ يُشبه كلَّ الآباء في لحظة عذوبةٍ خالصة، لحظةٍ لا يُشبه صفاؤها إلا الحليب.

لكنه، هو ذاته الرجل الذي أطلق الطلقة الأولى من أجل أن تعود عقارب السلطة إلى جماعته، فاحترق الوطن كله تحت ألسنة النيران التي أشعلها، ثم ارتدّ إلى شقته المؤقتة في ضفّة الأمان، يُمارس دوره كربّ أسرة، بينما ترك خلفه آلاف الأسر بلا ربّ، ومئات الآلاف من الأطفال بلا آباء، بلا مأوى، بلا حليب، وبلا وطن!

صورةٌ أخرى أقلّ بريقًا، انتشرت في التوقيت نفسه، لكنها أكثر صدقًا. تمّ التقاطها في عمق أم درمان؛ تُظهر أطفالًا في سنّ طفل المصباح، وهم يقفون في صفوفٍ طويلة، يحملون أوانيَ فارغة وعيونًا جائعة، ينتظرون حفنةً من “بليلة” باردة تُسكت بطونهم الخاوية، بلا أمٍّ تُسند ظهورهم، ولا أبٍ يُدفئ قلوبهم، فقط جوعٌ يابس، وخوفٌ معجون بالمجهول.

حمى المصباح ولده، وأشبعه دفئًا وحنانًا وطعامًا، بينما لم يرفّ له جفنٌ وهو يرى أقران طفله جوعى، وآباءهم يُنتزَعون من أحضانهم بلا رحمة، يُرمَون في أخاديد الموت باسم الوطن، والثأر، والدين … آهٍ من هذا الدين القاسي!

دين كرتي، والإخوان، والمصباح، والبراء .. والبرهان، لا دين له ولا أخلاق.

لا تعيب الصورة طفلَ المصباح، فبراءة الطفولة لا تُدان. لكنها تُدين ذاكرة الشعوب حين تُصاب بالزهايمر، فتغضّ الطرف عن قاتلٍ لأنّه يلاعب طفله، وتنسى أنه ترك خلفه أطفالًا بلا آباء وطفولة، وآباء بلا أطفال وأبوة، وبيوتًا بلا سقف، ومدنًا بلا حياة… وبلا وطن.

أيها “المجاهد” القاتل، الذي عاد إلى فطرته في المنفى، تذكّر: هناك طفلٌ ينتظر حفنة “بليلة”، لا تُطفئ نار الجوع، بل تُذكّره بأن من قتل أباه، يقف هناك، يبتسم في شقّةٍ آمنةٍ مُكيّفة، يتقمّص دور الإنسان!

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.