أمد/ تُواجه حماس فرصة استراتيجية فريدة تتمثل في تحول جذري بموقعها الحالي، عبر الانسحاب المحتمل من المشهد السياسي والعسكري المباشر في غزة. هذا التحرك ليس انسحابًا من المسؤولية، بل هو استجابة استراتيجية مدروسة قد تُجبر إسرائيل على إعادة تقييم خياراتها جذريًا. هذا النهج يمنح حماس مساحة أوسع للمناورة، ويُعيد صياغة مصير غزة نحو مسار جديد، ويُمكن القطاع من تشكيل روايته الخاصة واستباق الأعمال الإسرائيلية المدمرة المحتملة.

الانتقال من المواجهة إلى التمكين الشعبي

إن فك الارتباط الاستراتيجي من المشهد الحالي سيمكّن حماس من التعامل مع خصمها بشروط مختلفة، بعيدًا عن ساحة المواجهة التقليدية. هذا القرار سيُحدد وضع غزة المستقبلي، ويُرسّخ مجتمعًا فلسطينيًا صامدًا، ويضمن وجود وبقاء شعبه على أرضه، ناقلًا القطاع من حالة عدم التوازن إلى التوازن.

يُعد رد الفعل المدروس المتمثل في الانسحاب الاستراتيجي من المشهد السياسي والعسكري المباشر، ميزة استراتيجية حكيمة. هذا التحرك يتجاوز التداعيات الكارثية لهجوم السابع من أكتوبر والرد الإسرائيلي الانتقامي. إنه يُتيح مساحة أوسع للمناورة ويُحرر حماس من اتهامات “التواطؤ” في جلب الاحتلال إلى غزة، مُعيدًا توجيه الأنظار إلى مسؤولية الاحتلال ذاته أمام المجتمع الدولي.

تعطيل خطط العدو وتعزيز الصمود

بترك المشهد، تستطيع حماس بفعالية تعطيل مخططات العدو الذي قد يستخدم وجودها كذريعة لأعماله العسكرية والسياسية. هذا يمنح سكان غزة فرصة قيمة لاستخلاص الدروس والعبر، خاصة فيما يتعلق بالصمود والتجذر في أرضهم.

إن فعالية الرد المضاد المتمثل في الانسحاب كقوة دافعة في غزة، بعد تحرك الخصم، تمنح حماس المرونة اللازمة لشن “هجوم مضاد” يركز على حماية السكان. إن التخلي عن الحكم أو الانسحاب من الصراع المباشر والرغبة في الاحتفاظ بالسلطة يُمكن أن يُزعزع توازن إسرائيل ويُفسد خططها، مُحوّلًا الوضع من التدمير والتهجير نحو الصمود الشعبي والتعافي. هذا يمثل الهجوم المضاد الأكثر تأثيرًا لحماس في ظل الفجوة الاستراتيجية الحالية. التفكير في الانسحاب، وقبول نكسة أو حتى “هزيمة طوعية” مرحلية، أفضل من الإنكار والعناد، وهو يمهد لهجوم مضاد حقيقي. الموقف الدفاعي هنا هو أفضل طريقة لإخفاء مناورة هجومية أو هجوم مرتد، وهو الدفاع الأمثل للفاعل الأضعف في صراع غير متكافئ.

استراتيجية لقلب الطاولة في غزة

هذا التحول الاستراتيجي يُمكن أن يعكس مسار التدمير والتهجير الحالي، متجهاً نحو تثبيت أركان الصمود، وحماية الوجود، وترسيخ الناس بقوة على أرضهم، مما يمنحهم فرصة للتعافي. بدلاً من دفع القطاع من الكارثة إلى الدمار الكامل، فإن الانحناء أمام الظروف القاسية يمكن أن يعكس الاتجاه بأقل جهد ممكن. هذا ينقل حماس من حالة العجز إلى الفعالية الاستراتيجية، ويُحوّل العبء من الحركة إلى السكان، مما يتيح لهم تولي زمام المبادرة وتدبير شؤونهم تحت الاحتلال. باللجوء إلى خيار الصمود السلمي والبقاء، لن يتمكن العدو من مواصلة ما بدأه في غزة.

رهانات “الانسحاب الذكي”: استراتيجية لقلب الطاولة وتحقيق الأفضلية لغزة،

تكمن قوة هذه الاستراتيجية في قدرتها على:

تحويل العبء الاستراتيجي: الانسحاب يُلقي بمسؤولية إدارة غزة المباشرة على عاتق إسرائيل، وهو ما تسعى لتجنبه، مما يضعها في مأزق سياسي وأخلاقي.

تعزيز الشرعية وتخفيف الضغط: يمكن للانسحاب أن يُخفف من اتهامات “التواطؤ” ضد حماس، ويُعيد تركيز الانتباه الدولي على مسؤوليات الاحتلال الإسرائيلي، وربما يكسب تعاطفًا دوليًا أوسع.

توسيع مساحة المناورة: إن الانسحاب من الواجهة العسكرية المباشرة يمنح حماس فرصة حاسمة لإعادة تقييم استراتيجياتها من أساسها. هذا التحول يتيح للحركة مرونة أكبر للتحرك بعيدًا عن ضغوط المواجهة العسكرية التقليدية، مما يحررها ويُمكنها من العمل بفعالية أكبر ضمن بيئة متغيرة.يمكن لحماس الآن أن تتوجه نحو مسارين رئيسيين:

التحول إلى العمل السياسي: من خلال تبني دور سياسي محض؛ أو التحول إلى “نموذج البر”: التحول إلى استراتيجية تركز على الصمود المدني السلمي والتثبت على الأرض. يرتكز هذا النموذج على مساعدة المحتاجين وتقديم الدعم الإنساني والخيري، لتعزيز صمود المجتمع وتلبية احتياجاته الأساسية في غزة. هذا النهج يمثل نقطة تحول كبرى، حيث يبتعد عن المواجهة المسلحة المباشرة، ويعيد توجيه الجهود نحو تقوية البنية الاجتماعية من الداخل.

تأصيل صمود المجتمع: بالتركيز على الصمود السلمي، يُرسخ هذا النهج مجتمعًا أكثر مرونة وقدرة على التحمل، ويعطي الأولوية لبقاء الناس وتعافيهم، مما يُضعف خطط التهجير الإسرائيلية.

إحباط خطط العدو: غياب حماس كذريعة رئيسية قد يُربك خطط العدو التي تعتمد على استمرار وجودها كحجة لأعمال التدمير والتهجير.

تحديات رئيسية: رهانات التنفيذ

رغم هذه الإمكانات، تواجه هذه الاستراتيجية تحديات مهمة تُشكل رهانات كبيرة على نجاحها:

ضمان بقاء وصمود السكان: يعتمد نجاح استراتيجية الانسحاب من المشهد على قدرة المجتمع على الصمود في ظل فراغ إداري محتمل ونقص الاحتياجات الأساسية وحماية المدنيين.

معضلة فراغ السلطة والإدارة: الانسحاب يخلق فراغًا إداريًا وأمنيًا حيويًا. وهو ما يفرض على الاحتلال الدخول في مرحلت جديدة مع غزة حول تحديد من سيحكم غزة، وكيف سيتم ضمان الخدمات الأساسية، وتجنب الفوضى، الأمر الذي يفرض تحديًا كبيرًا على جميع الأطراف المعنية.

تصور الهزيمة والشرعية: إن فكرة قبول النكسة أو الهزيمة طواعية تتطلب تعاملاً حكيمًا. فالهزيمة بحد ذاتها ليست المعضلة، بل تكمن الأهمية في كيفية التعامل معها كضرورة حتمية للدخول في أفق جديد. هذا النهج يهدف إلى استعادة المبادرة ونقل العبء من حركة حماس إلى السكان. وبالنسبة للتحرك الفلسطيني، يجب أن يُقدم هذا القبول بوضوح كـ “مرحلة جديدة من النضال” وليس استسلامًا، مما يعزز من شرعيته ويحافظ على الروح المعنوية.

دروس تاريخية:

الصمود كشكل من أشكال المقاومة غير المسلحة: تُظهر تجارب تاريخية قوة تحويل الصراع من المواجهة العسكرية المباشرة إلى جبهات شعبية سلمية أكثر إرهاقًا للخصم. في غزة، يمكن ذلك عبر الصمود المدني، رفض التهجير، العصيان المدني المنظم، تعزيز البناء الذاتي للمجتمع، وتكثيف الحملات المناصرة والحقوقية.

الانسحاب التكتيكي لتقليل التكاليف: تُظهر أمثلة تاريخية أن الجهة الفاعلة الأضعف في صراع غير متكافئ تنسحب عندما تُصبح تكلفة البقاء أعلى من الفائدة. في غزة، يعني ذلك نقل عبء إدارة القطاع ومسؤولياته الإنسانية والأمنية إلى إسرائيل، مما يزيد من الضغط عليها.

إفشال استراتيجية “الذريعة”: يُجبر غياب حماس كواجهة إدارية إسرائيل على تبرير أفعالها مباشرة أمام العالم، مما يُفكك سرديتها ويُكسب الفلسطينيين تعاطفًا عالميًا أكبر.

خلاصة: رهان استراتيجي يتطلب الشجاعة

استراتيجية “الانسحاب الذكي” أي انسحاب حماس من المشهد العام تُقدم منظورًا جديدًا ومثيرًا للاهتمام. هذه الاستراتيجية تُمكّن حماس من تحويل نقاط ضعفها إلى فرص استراتيجية، وتدعو إلى التفكير خارج المعادلات القديمة لكسر حلقة الصراع المفرغة.

مع ذلك، فإن نجاح هذه المقاربة في غزة يعتمد بشكل حاسم على عدة عوامل: التخطيط الدقيق، القدرة على إدارة تداعيات أي فراغ، ضمان صمود المجتمع، ووضوح الرؤية بشأن الدور الجديد لحماس. تتطلب هذه الاستراتيجية شجاعة استراتيجية فائقة، وإذا تم التعامل مع تحدياتها الهائلة بفعالية وحكمة، فقد تكون بالفعل “الهجوم المضاد الأكثر تأثيرًا”.

شاركها.