معتصم محمد دفع الله علي

في لحظة فارقة من تاريخ السودان، أعلن الدكتور كامل إدريس، رئيس الوزراء المعين من قبل قائد الانقلاب العسكري في أكتوبر 2021م، الفريق عبد الفتاح البرهان، عزمه تشكيل “حكومة أمل” لإنهاء عقود من الفوضى وتحقيق تحول مدني مزعوم. لكن هذا الأمل اصطدم سريعًا بواقع سياسي معقد تسيطر عليه تحالفات من الولاءات العسكرية والقبلية، تتقاسم السلطة والثروة مع بقايا حزب المؤتمر الوطني المحلول، الذي لا يزال يمارس نفوذه الخفي مستفيدًا من هشاشة الدولة وانقساماتها. فقد تداخلت مراكز النفوذ بين الحركات المسلحة، والمؤسسة العسكرية، وفلول النظام السابق، فتحولت مؤسسات الدولة إلى ساحات صراع على المال والسلطة، وأصبحت غنيمة بيد قوى تحكمها البنادق والفساد، بعيدًا عن مصالح الوطن والمواطن. ويترتب على هذا الواقع خطرٌ داهم يهدد مستقبل السودان واستقراره.

تتمثل أبرز ملامح هذا الواقع في تمدد الحركات المسلحة داخل مؤسسات الدولة، ليس كقوى تحوّلت إلى العمل المدني، بل كمجموعات تحمل السلاح وتفرض شروطها من داخل أروقة الحكم. دخول هذه الحركات إلى الحكومة عبر اتفاق جوبا لم يكن تحولًا حقيقيًا نحو السلام، بل كان تقاسم نفوذ جديدًا تحت غطاء الشراكة السياسية، يتجلى بوضوح في توزيع المناصب الوزارية، وخصوصًا الوزارات السيادية ذات الطابع الاقتصادي والمالي.

على سبيل المثال، أصبحت وزارة المالية تحت إدارة حركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، ما أثار تساؤلات جدية حول نزاهة إدارة المال العام، وإلى أي مدى تُتخذ القرارات الاقتصادية بمنطق الدولة لا بمصالح الجماعة. وبرزت ملامح فساد شملت التصرّف في الأموال بلا شفافية، وتعيينات محسوبة على الحركة، وفشل في ضبط تهريب الذهب، مما عمّق الأزمة الاقتصادية وزعزع الثقة في الوزارة. أما وزارة المعادن، التي تتبع حركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي، فتحولت، بحسب تقارير غير رسمية، إلى منصة لتوزيع الامتيازات في قطاع الذهب عبر مسارات غامضة تفتقر إلى الشفافية والمساءلة.

هذه الممارسات أعادت إلى الأذهان تجربة قائد قوات الدعم السريع، الذي استغل سيطرته على مناجم الذهب في دارفور لبناء ثروته الخاصة وتعزيز سلطته العسكرية، في واحدة من أبرز صور تغوّل السلاح على موارد الدولة.

ولا تقتصر الخطورة في هذا النمط من الحكم على نهب الثروات، بل تتجاوز ذلك لتحويل الدولة إلى ساحة صراع بين مجموعات تتقاسم النفوذ بالسلاح والمناصب. أصبحت الوزارات تُدار وفق منطق الغنيمة، لا وفق رؤية وطنية شاملة. كثير من قيادات هذه الحركات ما زالت تحتفظ ببنيتها العسكرية وميلشياتها، وتشارك في النزاع المسلح الدائر، بينما تحتفظ بمناصبها الوزارية، في ازدواجية خطيرة تجهض أي محاولة لبناء مؤسسات مدنية حقيقية.

في قلب هذه الفوضى، يظل المواطن السوداني، وخاصة في إقليم دارفور، هو الخاسر الأكبر. فالحركات التي جاءت إلى الخرطوم مدعية تمثيل أهل الهامش، لم تنقل سوى القليل من السلطة إلى قواعدها، بينما انغمست في صراعات السلطة والثروة، وتحوّلت إلى نخبة جديدة لا تختلف عن تلك التي ثار عليها الشعب. المواطن الدارفوري، الذي عانى لعقود من التهميش، لا يزال يكابد الجوع والنزوح وانعدام الأمن، في الوقت الذي تُوزع فيه الثروات على موائد الصفوة السياسية.

ما نشهده اليوم هو تفريغ لمفهوم الدولة من محتواه، وتحويل السياسة إلى سوق تُباع فيه الولاءات وتُشترى فيها المواقف. لا وطن يُبنى تحت ظلال البنادق، ولا إصلاح ممكن في ظل محاصصة قبلية وعسكرية تُدار بلسان الدولة وتُخطط بمنطق الحرب. وإذا كان ثمة أمل في إنقاذ السودان، فإنه لن يأتي إلا عبر قطيعة جذرية مع هذا النهج، وتأسيس عقد سياسي جديد يقوم على المواطنة، لا على الانتماء العرقي أو العسكري.

لقد أجهضت حكومة الأمل قبل أن تُولد، ليس بفعل معارضيها، بل بفعل قوى ارتضت أن تجعل من الدولة مطية لثرواتها، ومن السلاح وسيلة للبقاء، ومن الفساد حقًا مكتسبًا لا يُسأل عنه أحد. ولن يستقيم حال السودان ما لم تُسترد هيبة الدولة، وتُعاد السلطة للشعب، لا لحملة السلاح وتجار الذهب.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.