منذ النصف الثاني من القرن السابع عشر، ظهرت ما يطلق عليها الدولة القومية الحديثة، عقب مؤتمر وستفاليا (١٦٤٨)، الذي أنهى الحروب الدينية في أوروبا، التي كان يُعتقد أنها وراء مظاهر عدم الاستقرار على مستوى المجتمعات المحلية والنظام العالمي. بشّرت مقررات ذلك المؤتمر بظهور كيان عالمي جديد، يتكوّن أساساً من (دول)، ذات سيادة تتمتّع محلياً بسيادة مطلقة على مجتمعاتها المحلية، وبحصانة أممية، في مجال حركتها خارج حدودها الإقليمية. ظُن حينها أن هذه الكيانات السياسية الجديدة، المستقلة، ذات السيادة المطلقة على ما على إقليمها من موارد وبشر، مع أنانية مطلقة في خدمة مصالحها، في محيطيها الإقليمي والدولي، محصّنة بقوانين «دولية» تعلي من شأن ادعاءاتها «الوطنية» على حساب مصير السلام على كوكب الأرض.

تناقض واضح بين احترام مبدأ سيادة الدول وتغليب مبدأ التزاماتها الدولية، بحجة الدفاع عن النفس (الأمن القومي).. وعدم السماح لأي طرف خارجي، وإن كان مكوّناً من الدول نفسها، ويستمد شرعيته الأممية من إرادة الدول نفسها والتزامها باستقراره ورعاية السلام في ربوعه. الإعلاء من مبدأ سيادة الدول على إقليمها، بما يفوق التزاماتها الأممية، تجاه السلام، لا بد أن يأتي يوم وتصطدم إرادة الدول في الدفاع عن سيادتها الوطنية بمبدأ تمسكّها بالتزاماتها الدولية. ذلك أن أي نظام دولي يقوم أساساً على كيانات «وطنية» هي في الأساس غيورة على سيادتها يعتريها «شكٌ فطريٌ» من أي تدخل خارجي، حتى لو كان يهدف إلى مساعدتها للدفاع عن نفسها وتنميتها، ينتج عن ذلك نظام دولي غير مستقر، يهدد سلام العالم وأمنه.

هناك، دوماً، في ذهنية أي كيان دولي (دولة) شكٌ وتربصٌ فطري من أن أي تطورٍ خارجي، على المستوى الإقليمي والدولي، يقترب من حدود إقليمها، حتى لو كانت هذه السلوكيات، الدولة نفسها، مشاركة فيها. ربما أحياناً تُفرض أوضاعٌ جيوسياسية عمل ترتيبات أمنية، لمواجهة عوامل ومتغيّرات عدم استقرار قرب مجال الدولة الإقليمي. صحيح، الدول أحياناً، تنجذب تجاه ترتيبات أمنية إقليمية تدعم أهدافاً إقليمية، تتغلب في تقدير قيمتها الأمنية على أي اعتبارات مصلحية أخرى، إلا أن الدول، في كثيرٍ من الأحيان، تميل لو استطاعت إلى الاعتماد على مواردها الذاتية، مقابل أي اقتراب تداخلي مع جيرانها أو حلفائها الخارجيين.

لو الأمر راجع للدول فإنها تفضل غلق حدودها على فتح منافذها البرية والبحرية والجوية والبحرية للبيئة الإقليمية والدولية، أخذاً بالمثل القائل: «الباب الذي يأتيك منه الريح سده واستريح». لكن ليس دوماً تواجه الدول أي شكوك تنتابها من محيطها الداخلي والخارجي باللجوء إلى إستراتيجية العزلة، لأنها ليست إستراتيجية عملية لخدمة مصالحها الخارجية، بالذات أمنها، حتى بالنسبة للدول العظمى.

بدايةً، الدولة أي دولة، مهما بلغت قوتها وطغى غناها وتفوق تقدمها لن تبلغ مستوىً من الاكتفاء الذاتي بمواردها وإنتاجها وسوقها الداخلية، مما يجعلها تستغني عن البيئة السياسية (الخارجية) المحيطة بها. الدولُ عادة تلجأ للانخراط في محيط السياسة الدولية عالي الأمواج وصاخب الإيقاع، من أجل إشباع حاجات خاصة بها، بأقل تكلفة ممكنة، وأعلى عائد متوقع. الدول في محيطها الإقليمي والدولي، تتصرف مثل التاجر الحاذق، الذي يسعى إلى الربح الجزيل، بتكلفة أقل ومخاطرة محسوبة.

أحياناً، على سبيل المثال: الدول الكبرى تلجأ إلى سياسة حمائية تجارية، متى وجدت أن ذلك يصب في مصلحتها الاقتصادية، على الأقل من أجل خفض ميزانها التجاري. وأحياناً تلجأ إلى اتباع سياسة انفتاحية تداخلية مع محيطها الإقليمي وبيئتها الخارجية البعيدة، من أجل الاستفادة القصوى من عوائد التجارة الخارجية، في زيادة نصيبها من موارد البيئة الخارجية، مثل الاستفادة القصوى من ميزاتها التنافسية (الإنتاجية أو الريعية)، في السوق العالمية.

كل تصرفات الدول على مستوى محيطها الإقليمي وبيئتها الخارجية تدفعها غريزة أنانية متطرّفة، لدرجة «العمى السياسي»، أحياناً. حتى فكرة الدولة عن السلام والاستقرار والتكامل الإقليمي والتعاون الدولي تندفع لها الدولة بواعز خدمة مصالحها الأنانية، لا تبصّراً لقيمة السلام.. ولا سيادة الاستقرار، ولا تدبّراً لحكمة سيادة حالة التوازن للنظام الدولي.

نظام الدولة القومية الحديثة، الذي يُبقي على الخلفية الأنانية لأعضائه من الدول، على الالتزام بقيم السلام والاستقرار والتكامل والتعاون (الإقليمي والدولي)، إنما يعكس طفرة جينية سلبية إلى الوراء في تاريخ الإنسانية، لا بالضرورة نظرة تقدّمية لتبصّر قيم وعوائد التكامل الإقليمي والتعاون الدولي، بدل حركة الصراع والمنافسة، تطلعاً لوضعية الهيمنة الإقليمية والدولية، على حساب استقرار النظام الدولي وتعزيز قيمة التكامل والتعاون لمصلحة أعضائه البينية.

الدول هي، في حقيقة الأمر، يمكن النظر إليها نظرة تشاؤمية (رجعية) كونها معاول هدم ممنهج ومنظم، لمستقبلها، ولدورها في استقرار مجتمعات الأرض. لا غرابة أن الدول نفسها تطوّر من داخلها عوامل تقويضها، بظهور قوىً هدامة، تساهم في المساومة على سيادتها، لتعيد حركة الصراع العنيف على السلطة في المجتمعات الإنسانية، إلى المربع الأول، قبل ظهور نموذج الدولة القومية الحديثة، تأكيداً بأن حركة الصراع العنيف، لا قيمة التكامل والتعاون هي انعكاس فطري لطبيعة الإنسان الشريرة (الأنانية الجشعة).

أخبار ذات صلة

 


إخلاء مسؤولية إن موقع يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.

“جميع الحقوق محفوظة لأصحابها”

المصدر :” جريدة عكاظ “





شاركها.