تفكك العملة السودانية في زمن الحرب: الجنيه ضحية مشروع دولة مفككة

عمر سيد أحمد

أولًا: من الانهيار النقدي إلى الانكشاف السيادي الكامل

خلال عامين فقط، تدهورت قيمة الجنيه السوداني بنسبة تفوق 390%، إذ ارتفع سعر الدولار في السوق الموازي من 560 جنيهًا في 2023 إلى نحو 2753 جنيهًا في يوليو 2025. أما في بعض المصارف الرسمية، فقد بلغ السعر 2216.5 جنيهًا، ما يشير إلى فجوة صرف تتجاوز 500 جنيه بين السوقين.

لكن هذا التدهور ليس وليد الحرب وحدها، بل هو استمرار لمسار طويل بدأ منذ 2017، حين كان الدولار يعادل 30 جنيهًا فقط. اليوم، ومع بلوغ الدولار نحو 3000 جنيه فعليًا، تكون العملة الوطنية قد فقدت أكثر من 99% من قيمتها خلال أقل من عقد.

ثانيًا: الأسباب البنيوية لانهيار الجنيه

انهيار مؤسسات الدولة وتعطل السياسة النقدية

مع اندلاع الحرب، شُلّ عمل البنك المركزي، وتعطلت أدوات السياسة النقدية بالكامل، من طباعة العملة إلى إدارة السيولة وضبط سعر الصرف. ولم تعد هناك جهة تملك الولاية الفعلية على السياسة المالية أو النقدية للدولة.

فقدان الغطاء الإنتاجي والاعتماد على الواردات

يعتمد السودان على استيراد أكثر من 70% من احتياجاته الأساسية، وفقًا لتقارير البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي. ومع توقف الإنتاج الزراعي والصناعي بنسبة تتجاوز 60%، غاب أي غطاء حقيقي للعملة الوطنية.

تآكل الثقة بالنظام المصرفي

تحوّلت كافة التحويلات الخارجية والداخلية إلى السوق الموازي، في ظل شلل شبه كامل للقطاع المصرفي. المواطن فقد الثقة، والمصارف فقدت دورها الأساسي.

تهريب الذهب وغياب الاحتياطي

يُقدّر أن أكثر من 80% من الذهب السوداني يُهرّب خارج القنوات الرسمية، دون أن يدخل في احتياطات الدولة أو يستخدم لدعم العملة. وهيمنة المليشيات على قطاع الذهب فاقمت الأزمة.

تصاعد ظاهرة الدولرة

باتت معظم المعاملات التجارية، العقارية، وحتى الاستهلاكية تُسعّر بالدولار أو الذهب، ما جعل الجنيه يفقد وظيفته كوحدة قياس ووسيط تبادل.

ثالثًا: مؤشرات أزمة مركبة قراءة رقمية موثقة

تشير البيانات الاقتصادية إلى أن سعر صرف الدولار في السوق الموازي شهد تدهورًا هائلًا خلال الفترة من 2017 إلى 2025، حيث ارتفع من نحو 30 جنيهًا في عام 2017 إلى حوالي 560 جنيهًا في أواخر عام 2023، ثم قفز إلى ما يزيد عن 2750 جنيهًا بحلول منتصف عام 2025، وفقًا لأسعار التداول غير الرسمية وتقارير البنوك المحلية والصحافة المالية المستقلة. هذا المسار يعكس انخفاضًا في قيمة الجنيه تجاوز 99% خلال أقل من عقد، ما يُعد من أعلى معدلات الانهيار النقدي المسجلة عالميًا في الدول الخارجة من النزاعات.

أما على صعيد التضخم، فقد سُجِّل معدل سنوي بلغ نحو 63% في عام 2017 بحسب بيانات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ثم ارتفع إلى ما يزيد عن 370% في عام 2023 في ظل انهيار سلاسل الإمداد، وتراجع الإنتاج المحلي، وتضخم الاقتصاد الموازي. وتشير التقديرات المتداولة لعام 2025 إلى أن معدل التضخم تجاوز حاجز 300%، خصوصًا في المناطق الريفية والحدودية التي عانت من شلل الأسواق الرسمية¹.

من جانب آخر، تزايدت فجوة سعر الصرف بين السوق الموازي والسوق الرسمي بمرور الوقت، إذ كانت لا تتجاوز 1015% في عام 2017، ثم ارتفعت إلى حوالي 50% في عام 2023، قبل أن تستقر فوق 20% في منتصف 2025، حيث بلغ السعر الرسمي للدولار في بعض البنوك نحو 2216 جنيهًا مقابل 2750 جنيهًا في السوق الموازي هذه الفجوة لا تعكس فقط خللًا في آليات العرض والطلب، بل أيضًا ضعفًا في السيطرة الحكومية على سوق النقد.

رابعًا: الانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية

* تدهور القوة الشرائية

* تضخم مفرط

* هروب رؤوس الأموال وتحويل المدخرات إلى الدولار والذهب

خامسًا: الدين الخارجي ضغط إضافي على الجنيه

بلغ إجمالي الدين الخارجي بنهاية 2024 نحو 90.32 مليار دولار، منها 22.66 مليار دولار كدين فعلي، و67.66 مليار دولار كمتأخرات. تمثل هذه الديون نحو 348% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو معدل يُصنف على أنه غير قابل للاستدامة وفق المعايير الدولية.

سادسًا: الأسباب العميقة دولة بدون سيادة مالية

ما يعمّق أزمة الجنيه هو غياب سلطة شرعية فاعلة قادرة على إدارة الاقتصاد. فـ” سلطة الأمر الواقع” المتمركزة في بورتسودان لا تبسط سيطرتها على أجزاء واسعة من الوطن، ولا تمارس ولاية مالية حقيقية، في ظل تفكك المؤسسات واختفاء المركزية الاقتصادية. يُدار قطاع الذهب وتجارة العملة من مدن خارج البلاد أو من مناطق تحت سيطرة غير حكومية، ما يعمّق الانكشاف المالي للدولة.

إضافة إلى ذلك، عادت شبكات سماسرة النظام السابق لإدارة التجارة الخارجية من مواقعهم القديمة، مستغلين غياب الدولة، فيما تدار أسواق النقد من الخارج، خاصة من المدن التي تستضيف السودانيين في الخليج ومصر وأوروبا.

ومن المؤسف أن المؤشرات على هذا التفكك ظهرت مبكرًا بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021، حين أفادت تقارير بأن القيادة الانقلابية استولت على أول احتياطي نقدي حقيقي يُحتفظ به في البنك المركزي منذ عقود، ما بدّد أي أمل بانتعاش مستقبلي للجنيه السوداني. لقد كان ذلك بمثابة إعلان غير رسمي عن دخول مرحلة الإفلاس المؤسسي، في ظل حكم شمولي فاسد فقد الحد الأدنى من الرشد الاقتصادي والشفافية المالية.

وما فاقم الأزمة أكثر هو استمرار سياسات التحرير غير المقيدة. فرغم اندلاع الحرب الشاملة التي شملت أغلب أقاليم البلاد، لم تُراجع الدولة سياسات التحرير الاقتصادي التي تتّبعها منذ عقود، بل استمرت في تطبيقها دون أي تعديل يتناسب مع طبيعة اقتصاد الحرب وانهيار الإنتاج. وقد أدى ذلك إلى تفاقم هشاشة الوضع الاقتصادي، خاصة مع انسحاب الدولة من دعم الإنتاج أو ضبط الأسواق، وهو ما جعل الجنيه عرضة لمزيد من التدهور.

كذلك، هيمنت السوق السوداء والاقتصاد غير الرسمي على معظم مفاصل الاقتصاد الوطني، مستندين إلى شبكات تهريب منظمة تُصدّر السلع الأساسية مثل الذهب والوقود والقمح إلى الخارج. وتفيد تقديرات مراقبين اقتصاديين بأن الاقتصاد غير الرسمي بات يشكل أكثر من 60% من الناتج المحلي، ما أدى إلى تقلص القاعدة الضريبية، وضعف الإيرادات العامة على المستويات القومية والولائية والمحلية، وبالتالي حرمان الدولة من مصادر تمويل ضرورية للاستقرار النقدي والمالي.

وفوق كل ذلك، فإن ما يُعرف بـ”حكومة الأمر الواقع” لا تبسط سيطرتها حتى على كامل التراب الوطني، بل تتقوقع في أجزاء محدودة، فيما تدار أجزاء واسعة من البلاد خارج سلطتها السياسية والاقتصادية، ما يعكس انعدام السيادة ويحول دون أي إصلاح جاد للسياسات النقدية أو الإنتاجية.

سابعًا: ما العمل؟ مدخل سياسي قبل أن يكون نقديًا

حل الأزمة لا يكمن فقط في سياسات سعر الصرف أو أدوات البنك المركزي، بل في:

1. وقف الحرب واستعادة مؤسسات الدولة.

2. احتكار الدولة لتصدير الذهب ومنع التهريب المؤسسي.

3. إعادة بناء النظام المصرفي وربطه بالاقتصاد الإنتاجي.

4. تحفيز الإنتاج المحلي كغطاء حقيقي للعملة.

5. توحيد السوق النقدية وإلغاء السوق الموازي تدريجيًا.

خاتمة: الجنيه ضحية مشروع دولة مفككة

لا يمكن إنقاذ الجنيه من الفوضى إلا باستعادة الدولة نفسها. فالمشكلة النقدية اليوم ليست فنية فقط، بل تعبير عن غياب المشروع الوطني ذاته، حيث تُنهب الموارد وتُدار السياسة المالية بلا شفافية ولا سيادة. إن مستقبل العملة مرهون بمستقبل الدولة.

* خبير مصرفي وتمويلي مستقل


¹ Dabanga Sudan, “Inflation tops 300% as rural areas bear the brunt,” 2025

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.