حسن ابوزينب عمر
أيها المطعون في روحك من عطر الصناديق القديمة
كل جرح غيمة تهمي .. ومصباح يغني
وتواريخ تقاوم ..
ونهار جاسر الوثبة حاسم
واناس وبيوت وعوالم
وبراكين وخيل وحديد وصوارم
ودراويش وطبل وعمائم
وشهيد نائم في الريح والامطار
علق الجرح على عينيك قهرا
واتشح بالنار
لكن لا تساوم
مصطفى سند
(1) حتى وقت قريب من عمر السنين كنت احسب ان بحر ابداع المبدع الاريب مصطفى سند الذي تخصص الفنان صلاح مصطفى في أغانيه يبدأ من أعماق بحر الشعر ولا ينتهي حتى فى الضفاف فهو من رواد شعراء مدرسة الحداثة التي ينتمي اليها بدر شاكر السياب ونزار قباني ومحمد عثمان كجراي. وقد حصل على جائزة الدولة التشجيعية عام 1983 ووسام العلوم والفنون والآداب 1983 وجائزة الشعر من جامعة الخرطوم 1991 كما حصل على جائزة المربد في العراق عدة مرات ولكن قراءة بعض مقالات له وجدتها بالصدفة وضعتني أمام قاص لا يشق له غبار وتمنيت ان أعثر على المزيد منها لما وجدت فيها من متعة تفنن فيها كاتب يمتلك ناصية اللغة وناصية الفكاهة معا ولا يقل هنا عن أساطين مصر من محمود السعدني الى احمد رجب.
(2) قرأت له أول مقال كتبه اثناء تواجده في بورتسودان التي عمل فيها فترة قصيرة منقولا من مصلحة البريد والبرق في امدرمان وجاء المقال تحت اسم (تحت رحمة مجنون) اذا لم تخنى الذاكرة .. يقول مصطفى سند الذي له دواوين عدة منها (البحر القديم 1971) (ملامح من الوجه القديم 1978) (عودة البطريق البحري 1988) (أوراق من زمن المحنة 1990) (نقوش على ذاكرة الخوف 1990) (بيتنا في البحر 1993) .
(3) يقول انه قصد السوق الكبير ببورتسودان بحثا عن حلاق فأرشده أحد الأخوة الى أحدهم لكونه الأفضل لكنه يعاني من اضطرابات نفسية تزوره من حين لآخر ولكن حالته تحسنت كثيرا ولأن كفائته تفوق الآخرين فقد توكلت على الحي الذي لا يموت وملكته رقبتي الا أن ذلك لم يمنع شعورا من الرعب لازمني وسؤالا لم أجد له إجابة (هب ان الحالة عاودته والشفرة في يده فأين الهروب؟) .. مرت الدقائق متثاقلة بطيئة تجر أقدامها ولكن لطف الله ان شيئا من هذا لم يحدث وتنفست الصعداء حينما جاءت البشارة (نعيما يا أستاذ) .
(4)
أما القصة الثانية فقد جاءت تحت عنوان (الحقيبة الفاضلة) على طريقة المدينة الفاضلة للفارابي. يقول مصطفى سند انه لا يطيق رغم اقامته في أوروبا فترة من الزمان مشاهد العناق في الشارع العام فرغم معرفته انها ثقافة لهذه الشعوب تمارسها بصورة طبيعية فانه لم يستوعبها ولم يفهمها بل كان يتعامل معها وكأنه اعرابي جاء لتوه من الريف. وقد سبق أن أوقف الحركة في أحد شوارع العاصمة الرومانية (بوخارست) وهو يحملق في فتى وفتاة حتى جاء أحدهم وهمس في اذني أن أنصرف على جناح السرعة قبل أن تأتي الشرطة اذ ان هؤلاء القوم يعتبرون هذا تجسسا وتدخلا في حياتهم الخاصة.
(5) يقول مصطفي (ولكن الذي عشته من تجربة خلال رحلة للقطار كان شيئا يفوق كل تصور فقد كنت عائدا من السودان وكانت معي حقيبة تئن تحت وطأة حمولة ثقيلة من أشياء خاصة بي وأشياء تخص بعض زملائي الطلاب بعثها معي أقاربهم وكانت كلها عن منتجات سودانية منها دقيق العصيدة والقراصة والابري الأبيض والحلو مر والدكوة والشطة والويكة والشرموط والبليلة والكركدي والعرديب والقونقليز) .. يقول (رفعتها بصعوبة ووضعتها في احد رفوف عربة القطار الذي كان ينهب الأرض الى المدينة التي كنت أقصدها .. يضيف (كنا خمسة في العربة رجلان كبيران في السن وشاب وفتاة وشخصي) .
(6) ما ان تحرك القطار حتى شاهدت حركات مريبة بين الشاب والشابة بدأت هادئة ولكنها سرعان ما زاد أوارها .. كانت الشابة تمسك بكلتا يديها رأس الرجل ثم تهجم عليه وحينما كان الأمر مستفزا خادشا للحياء فقد بدأت أتململ في مكاني والغضب يغلي في داخلي أما جيراني الاخرين فقد كان أحدهما منشغلا بمشاهدة الطبيعة من النافذة أما الآخر فقد كان يدس وجهه في كتاب وكأن الذي يحدث بجانبهما لا يعنيهما في شيء ولكن فجأة تطورت الأمور الى ما لا يمكن السكوت عليها حينما انتقلت الشابة الى مكان آخر أكثر حساسية وتأتي بممارسات سافرة أكثر استفزازا وأكثر خدشا للحياء فخرجت من (قمرة القطار) غاضبا ومسرعا الى مكان بعيد ووقفت في احد الممرات أتأمل سحر الطبيعة على امتداد البصر.
(7) سنابل القمح تحركها الريح وهي تتمايل يمنة ويسرة وسط الخضرة والماء والجبال التي تعانق هامتها الثلوج في الأفق البعيد. يتابع مصطفى سند (يالغرابة هؤلاء القوم إذا مر أحدا جنبك وشعر أنه احتك بك ينحني لك معتذرا بكل طيبة. كما أن الله اعطاهم كل هذه النعم ولكنهم يمارسون ما تخجل منه الكلاب الضالة وأنا في هذا الحال انتظر فرجا من الله تناهى الى سمعي هرج ومرج وصرخة مدوية لامرأة ملتاعة فعدت مهرولا وأنا أقول لابد ان نار الحمية قد اشتعلت في قلب أحدهم فلقن الفاجرة درسا لن تنساه ولكن الذي انتظرني لم يكن في الحسبان اذ ان الذي قام بمهمة تأديب الفاجرة لم يكن أحدهم بل حقيبتي الثقيلة التي كانت تخنزن أشيائي وأشياء غيري من نعم السودان.
(8) فقد سقطت عليهما بأثقالها مع حركة القطار ويبدو انهما كانا في حالة اشتباك) .كانت الفتاة تنتحب وكان خيطا من الدماء يسيل على خدها ناتج من انفراط الحلق في أذنها أما الرجل فقد كان مرتبكا وهو يحاول ترتيب قميصه الذي تمزقت (زرايره) ويبدو ان الحقيبة هاجمتهما بصورة مفاجئة وعلى حين غرة .. يقول مصطفى (وقفت على باب القمرة أتهيأ لمعركة أعرف مقدما انني الخاسر فيها أمام هذا البغل ولكن شيئا من هذا لم يحدث فقد قال لي الرجل بكل أدب وتهذيب لا تضعها في هذا المكان .. أبحث لها عن مكان آخر لأنك ان وضعتها في نفس المكان ستقع مرة أخرى).
(9) الروايات الطريفة عن الشاعر الفذ الذي يغني له الفنان صلاح مصطفى مجموعة من أجمل الأغاني نظما في الكلمات وعذوبة في اللحن (غلطان بعتذر) (شارع الصبر) (من الأعماق يا حبيبي ياغالي) (اكتب لي ياغالي الحروف) ويقال انها قيلت في زوجته الدكتورة نعيمة أحمد يوسف القباني وهي من بنات حي الشاطئ (بورتسودان) وتنتهي الاغنية وهو يناجيها:
يا ريت تشوف أنا كلما تنعس شموع أوقد شموع
وأفضل أتوه عبر البلاد
يا رب متين وقت الرجوع
أكتب لي خلي النار تموت
والهم يفوت
أنا غير حروفك أفقد الدنيا وأضيع
(10) كانت أحد أطرف محطات الشاعر الهرم الكبير مصطفى سند مع زميله الشاعر مختار دفع الله .. تقول الرواية أن مصطفي كانت له مناسبة دعا فيا كل زملائه الشعراء والفنانين ونسى دعوة صديقه مختار دفع الله الذي غضب غضبة مضريه كيف أن مصطفى ينساه من دون الآخرين فتوجه الى منزل مصطفى سند للمحاسبة وتقديم اللوم وطلب الاعتذار وحينما طرق الباب فتحت له الزوجة وأخبرته أن مصطفى غير موجود وسألته (أقولو مين لمان يجي ؟) فأجاب مختار صاحب الشعر الأسود الناعم والبشرة السوداء قائلا (قولي له أن ابنك من المرة الجنوبية جاء ومالقاك) فجن جنون الزوجة فأسرعت بلملمه حاجاتها تنتظر زوجها غاضبة لكي يعيدها الى منزل والدها ولسان حالها يقول (دي نهاية العيش والملح يا مصطفى تزوج على يا خاين العشرة) وعاد مصطفى سند ووجد بعد نقاش وقسم غليظ بعدم الخيانة ان مختار دفع الله وراء هذا المقلب (الزلزال) الذي أوشك انهاء علاقته الزوجية ,وبعدها وصل الى قناعة تامة بوضع اسم مختار دفع الله في صدارة المدعوين في أي مناسبة حتى يأمن شروره تماشيا مع العبارة الشهيرة (الباب البجيب الريح سدو وأستريح) .
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة