مهيد صديق
1 سؤال بات يتردد في الأوساط السودانية مع تزايد الحديث عن مبادرات دولية لإيقاف الحرب المدمرة، وخصوصًا بعد تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بشأن ضرورة صناعة السلام في السودان. كثيرون تلقّوا هذه التصريحات بترحيب مشوب بالتفاؤل، واحتفلت بعض النخب بإفادة رئيس أكبر دولة في العالم، وأنه أخيرًا سيدخل إلى عملية المشاركة في إيقاف الحرب. ولكن خلف هذه الاحتفالات تكمن سذاجة سياسية خطيرة، وتغاضٍ عن سؤال محوري: ما هو شكل السلام الذي يسعى إليه ترمب؟ وما هو الثمن الذي سيدفعه السودان؟
2
لم تعد الولايات المتحدة، في عهد ترمب، تتحدث عن دعم الديمقراطية أو تعزيز حقوق الإنسان كما فعلت في التسعينات. تحوّلت السياسة الأمريكية إلى الواقعية المتوحشة، والسعي إلى الربح بأي ثمن، حيث لا مساعدات مجانية، ولا دعم إنساني، بل شراكات مشروطة واحتكارية، يُمنح الاستقرار مقابل السيطرة على الموارد الحيوية للدول الضعيفة. ترمب أعلنها صراحة في حملته الانتخابية الاولي، وكرّرها في ولايته الجديدة: (أفريقيا ليست بحاجة إلى مساعدات… بل إلى اتفاقات وشراكات تحقق لأمريكا ربحًا).
3
بعملية مسح سريع للاخبار، نشاهد بعض أطروحات ونماذج السلام في مشروع ترمب: في أوكرانيا: عقد ترمب صفقة ضخمة تمنح واشنطن حق احتكار استخراج المعادن النادرة، كجزء من دعمه العسكري والسياسي لكييف. في الكونغو ورواندا: توسط لوقف إطلاق النار مقابل منح شركات أمريكية امتيازات حصرية في مناطق التعدين. في غزة: طرح مشروعًا للسلام الاقتصادي يشمل تهجير السكان، وتحويل غزة إلى منطقة استثمار سياحي عالمي، على غرار (محمية دولية) تدرّ مليارات الدولارات على السوق الأمريكية. وفي لقائه الأخير مع خمسة من زعماء الدول الأفريقية، عرض صفقات علنية تتضمن خطوط سكك حديدية، وتسهيلات مالية مقابل النفاذ الكامل إلى الموارد الطبيعية في تلك البلدان.
4
في هذا السياق، تأتي مبادرة ترمب، أو حتى الآن يمكن أن نسميها تصريحاته تجاه السودان. ونعرف أنها لا تنبع من قلق إنساني على المدنيين أو رغبة في إحقاق العدالة، بل هي من نظرة استثمارية إلى أرض غنية بالذهب، واليورانيوم، والنفط، والأراضي الزراعية، والمياه، والموانئ الساحلية، ومعبر أفريقي للسلع. يبقى السؤال: ما هو الثمن الذي يُنتظر من السودان دفعه؟ هل هو الاحتكار الكامل للمعادن، ما ظهر منها وما بطن؟ أم التحكم في الأراضي الزراعية وتحويلها إلى شركات مؤمركة؟ أم الوصول والسيطرة على كميات مياه النيل حتى آخر جغرافيا السودان؟ أم كل ذلك مجتمعًا مقابل وقف القتال؟
5
من يراقب المشهد يدرك أن ما يحدث يتطابق مع ما وصفته الكاتبة ناعومي كلاين بـ(عقيدة الصدمة): استخدام الأزمات (كالحرب، الانهيار الاقتصادي، الكوارث) كفرصة لإعادة هيكلة الدول والسيطرة على مواردها من خلال أدوات السوق والهيمنة السياسية. فهل السلام القادم إلى السودان سيكون سلامًا لشعبنا؟ أم أنه بداية حقبة استعمارية جديدة، بأدوات حديثة، وامتيازات تمتد لعقود تحت غطاء (الشراكة)؟ هل سيدفع السودانيون ثمن السلام بمواردهم، بسيادتهم، وبحقهم في تقرير مستقبلهم؟
6
مجرد أسئلة… لكنها أساسية من يدفع الثمن؟ ما هو الثمن؟ من يربح من هذا السلام؟ وهل نملك القوة والإرادة أن نقول (لا، ولا) ونحن منهكون بهذه الحرب اللعينة، عندما يُطرح علينا سلام مشروط بالاستيلاء على ثرواتنا؟ وهل نحسن القرار وصوت العقل عندما نرضخ ونوقف الحرب بصورة آنية لحقن الدماء، على حساب مستقبل الأجيال السودانية القادمة، بتجريدها من ثرواتها؟ من ناحية المبدأ، نحن لا نحتاج إلى سلام بوجه استعماري جديد، يُنتج الأزمات ويمهد لحروب جديدة، بل إلى سلام شامل، عادل، مستدام، مستقل، يحفظ ثروات الأرض. ما هو الطريق إلى الوصول إلى سلام بأيدٍ سودانية، بعيد عن الأجندة الماثلة أمامنا في تجارب العالم لإنهاء الحروب؟
مداميك
المصدر: صحيفة الراكوبة